وعبر كوكاس ضمن مقال توصلت به هسبريس، عن نفسه كحارس لوادي النسيان، وهو يتأمل في كينونته وما بعده، مستشعرًا الفراغ الناتج عن الغياب، لكنه أيضًا يراه فرصة لإعادة خلق الوجود من خلال الكتابة والتأمل.
“يلوح لي أنّني سأظلّ على الدّوام سعيداً في المكان الذي لست موجودا فيه، أو إذا شئنا المزيد من الدِّقة: حيث لا أُوجد أعثر على ذاتي، أو بالأحرى إذا شئنا المواجهة المباشرة: في أيّ مكان خارج العالم”.. بودلير
ما معنى أن تبقى حيا بعد أن قُدتَ أقرب الناس إلى قلبك نحو خاتمتهم، وخلا زمانك منهم.. إنه ألم الأحياء لا الأموات الذين لم يعد يعني لهم الزمان شيئا، والمشكلة هي دوما مشكلة الأحياء لا الأموات الذين رحلوا وما عادوا قلقين على العودة أو على طرح سؤال كيف سنعيش؟
ما معنى أن تحيا؟
عليّ أن أتصور موتي حالا قبل الأوان، أؤثّثه بعناية فائقة، أنا الذي أعرف أني سأموت ويجب أن أفكر في ذلك بعمق، ولي وحدي أن أفكر كيف سأموت.. عليّ أن أتألّم موتي وأتأمّله.. كما تأمله بول ريكور وهو يرى احتضار زوجته سيمون ويتساءل: “ماذا يمكنني أن أقول عن موتي؟ ولكن ما هذا الموت الأكثر واقعية من حياتي؟… لأن علاقتي بالموت غير منتهية الصلاحية بعد. هي علاقة مُحتجبة، مطموسة، مُضعَفة باستباق سؤال مصير الأموات الذين هم موتى قبلا.. إنه ميت الغد، المستقبل القريب الذي أتخيّله، وصورة الميت التي سأكونها بالنسبة للآخرين، والتي تريد أن تحتل كلّ المكان”.
بعد توالي الغيابات في سلالتي وأصدقائي، وحين سيرحل كل من يُبهجني حضورهم، ماذا سيتبقى للموت ليتسلّى به؟ ألن يصبح عاطلا بلا معنى لوجوده؟ حين لن يعود هناك من يهابه أو يهدده، ألن يتولّى أمر ذاته بنفسه، كيف سيكون موته، لا دموع، لا آهات، لا حزن عليه، لا ألم ينقذه من الفراغ؟ لو يخجل الموت قليلا.
نفضتُ عن روحي بعض الغبار لأستطيع أن أسمع همسي، لم يكن هناك غير الصدى، لملمتُ أحلامي، هدهدْتُها قليلا لتنام واستسلمت لعتمتي لأذهب إلى قبري بكامل اليقين، أحسني برغم ثقل السنين، طفلا نزقا، حريتي دليلي
أنا من أعطى للطيني فيّ روحه وشكله
أنا من منحه حزنه وفرحه
أنا من جعلت الطين فيّ يشبهني
وسرقت له تأوّه الريح وغواية رقص الوردة
دثّرتُه بدفء الأساطير الأولى، وأول الكلام علّمته..
وحين شاب وشاخ.. كان موت واحد ينتظرنا
فديتُ الطين فيّ، وتركت له سماء يقطع بها شراب سكره
ليُطل على صمت الظلال.. وقررت الرحيل.
يتحرر جسدي رويدا رويدا من المكان وأسر الزمان، يطير بعيدا مثل فراشة تتحرر من شرنقة دودة القز، لولا صرخة الألم والعيون الحزينة المتحلقة حول جثماني، لاعتقدْتُني في حلم، أيقنتُ أنني أسير نحو حتفي.. مثل صرخة الميلاد جاءتني الحشرجةُ الأخيرة، وَهَنُ جسدي يُضعف صرخة الألم في داخلي.. فللموت كثافة جليلة، لا تنفع معها محاولات مقاومة العزلة ولا ترويض الذاكرة على النسيان. وددت أن أخاطب الموت بلهجة ساخرة كما فعل شيشرون وهو يصرخ في طليقته ترنتيا: “اذهبي من هنا واحملي كل ما هو ملك لك”.
حين كانت الروح تتحلل بتؤدة أدركت أني دخلت في عتمة اللامرئي فجأة.. لا شيء غير الرمادي هنا، فقدتُ اللغة أولا، لا لسان لي هنا، لا ذاكرة ترشدني إلى ما كنته وما أصبحت عليه وأنا أدخل السبات العميق، والموتى جيراني يتهامسون وَجِلين من حولي في ركن قصي من العالم السفلي.
أتذكر مرة في حادثة سير، انقلبتْ بي السيارة، تدحرجت مرتين بجانب وادي ما زلت أسمع هدير مياهه حتى اللحظة، فقدتُ نظّارتي، عجلات السيارة وحدها كانت تدور في الهواء بعد أن انطفأ المحرك، لمستُ كل أعضاء جسمي شلوا شلوا.. كلها كانت في مكانها بلا خدش، ثم استسلمتُ لإغفاءة قصيرة ورأسي أسفل جسدي، كمن يريد أن يعتقد بأنه ينام برهة وأن ما حصل كان حادثة حلم يقظة فقط، فالنوم أخو الموت وصنوه، من يومها شغلني الموت ليس كنقيض لحياتي بل كامتداد لها فقط، فكرتُ فيه كرزنامة زمنية، وها أنا ألجه كفضاء.
كيف سأعيد هنا خلق لغة لأتملّك كينونتي ولتصبح للأشياء ذاكرة، كيف لي أن أخلق لغة حية لكائنات ميتة، لأُخْرِج هذا العالم السفلي من وجوده الغُفل كما في مرويات الأساطير، ليكون له معنى، ويُنقذ ذاته من النسيان؟ لا أميل اللحظة إلى أية عدمية حيث “تفقد القيم الأكثر سموّا قيمتها”؛ بل أود الشعور بالانتماء ولم لا التملك، تملّك المكان والزمان لتكون لي هوية تُشعرني بالوجود حتى وأنا في قعر العدم… كيف بإرادتي الحرة يمكن أن أعطي معنى لمن فقد كل قيمة هنا، وأن أُعيد تشكيل الأشياء بحرية وبحب.. أود أن أسمي الأشياء من حولي لأكون سيّد اللّيس، أليس الوجود – حتى لو كان عدما- حرب تسميات كما ألْهمنا نيتشه؟ كيف أسمي الحقيقة وأربّي الوهم وأرعاه لينهار السياق بين الأسطورة والتاريخ، بين الهُنا الذي كان يوما هناك، لينزاح قليلا ذلك الخيط الدقيق بين الوجود والعدم، بين الأولى والآخرة؟
لا تلال هنا ولا هدير شلال، لا خرير مياه ولا ظل كرمة ولا دالية، سوى المدى الواسع من العماء الأبدي. كم أشتهي اللحظة قرصانا جسورا يتصيد سفينة، قطرة ندى تشع أملا على خد وردة، سرابا يتلألأ كدليل توهّم حياة، أشتهي أرضا لقيلولة الصيف، في مدى أشبه بالمنفى القسري.. ثمة حلقة مفقودة بين ما كنتُه وما أصبحتُه الآن؟
ماذا يفعل الموتى عادة بعد رحيلهم؟ هل يعملون؟ هل يحلمون؟ هل يتسامرون ويحكون؟ هل يتأفّفون من هذا العدم المحيط بهم مثل أنشوطة حبل الإعدام؟ هل ينسجون الوهم لمواجهة ملل الوقت؟ كيف سأكمل هنا ما تبقى من عمري في الممات؟ كيف سأكتب مذكراتي بلا ضوء ولا حبر؟ من أين لي بالنبيذ الموعود قبل الحشر.. اشتهيتُ أن أنفخ في مرآة أملأها بضباب أنفاسي لأحس أني، وأنا الميت، لا زلت على قيد الوجود، بعد أن نزلتُ إلى العالم الهاديسي.. حيث الحداد بلا حدود، والجو مالح. لا نهد امرأة يثير الرغبة في جلمود صخر، لا بعوضة تلسعك لتشعرك بحيوية جلدك وبسلامة دورتك الدموية.. لأن لا دم هنا، لا ذباب يطنّ ليُهيّئك للصراع والحرب.. كل شيء صامت مثل مقبرة كبرى. ومع ذلك أحس بأن لا شيء ينقصني غير حيز للكتابة وسيجارة برغم الخرم في حنجرتي ووجه من أحب وكأس نبيذ في خاطر من عبروني بأثر طيب ومكان للصلاة من أجل أمي وروح أبي.. إلاهي هل طلبت المستحيل؟
لا شمس تشرق بشهوة الحياة وضياء النور، لا شجن هنا ولا أثر مرح، لا نص للتمثيل، لا مسرح، ولا نسمة لخطيئة الخروج من نعيم إلى جحيم، أين الأولى والآخرة في هذا السفر الصامت؟ لا شيء سوى الرمادي الغامق، كل الحواس تبدو خاملة، أريد أن أهجو هذا العدم بكلام يليق بالخدوش التي تركها فيّ… أخطر ما يمر به المرء هو التتابع ...
التفاصيل من المصدر - اضغط هنا :::
مشاهدة كوكاس ي عد مرثية ذاتية كحارس لوادي النسيان موتي امتداد لحياتي
يذكر بـأن الموضوع التابع لـ كوكاس ي عد مرثية ذاتية كحارس لوادي النسيان موتي امتداد لحياتي قد تم نشرة ومتواجد على هسبريس وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.
وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، كوكاس يُعد "مرثية ذاتية" كحارس لوادي النسيان.. "موتي امتداد لحياتي".
في الموقع ايضا :