أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج ...السعودية

ثقافة وفن بواسطة : (جريدة الرياض) -

الحج ممارسة دينية وإنسانية مركبة، تستقطب ملايين الأفراد سنويًا في شعائر جماعية تحمل أبعادًا روحية واجتماعية. ومن خلال مشاهد التجمّع والتنسك والعبور من الفضاءات الدنيوية إلى المقدّسة.

فقد ارتبط الحج في الماضي بمظاهر الزهد والتقشف والتجريد الجسدي، ولكنه أضحى اليوم مشهدًا تتداخل فيه التقنيات الحديثة والرفاهية المادية ضمن تجربة تُبث رقميًا لحظة بلحظة. وبين هذين القطبين، تظهر أهمية قراءة الحج كمجال أنثروبولوجي يعكس التحولات الثقافية والدينية في ظل العولمة الرقمية.

يجتمع في الحج ملايين المسلمين مؤقتًا في مكان وزمان محددين، مما يخلق وضعًا اجتماعيًا استثنائيًا تتعطل فيه الفروقات الطبقية والعرقية. ويجعل هذا الانصهار الجماعي من الحج نموذجًا حيًا لما يسميه فيكتور تيرنر «مجتمع العتبة»، حيث يدخل الفرد في حالة متوسطة بين وضعين هما، ما قبل الحج وما بعده، وهو ما يساعد على إعادة تشكيل هوية المسلم من خلال الشعائر.

تعمل هذه الحالة أيضًا على إنتاج شعور جماعي بالهوية والانتماء، فالحج مناسبة لإعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الإنسان وخالقه من جهة أخرى.

طقوس العبور في مناسك الحج

تعتبر الشعائر «طقوس عبور» للحاج لإعادة إنتاج المعنى لحياته. فالإحرام، بصفته أول خطوة، يضع الحاج في لحظة انتقالية «بين الهويات»، كما وصفها أرنولد فان جينيب، حيث يتخلى الفرد عن طبقته ووضعه الاجتماعي مؤقتًا ليدخل في مجتمع رمزي موحد، تُلغى فيه الفوارق الظاهرة، ويُصبح الزي الأبيض رمزًا للتجرد والمساواة.

ويُظهر الطواف حول الكعبة نموذجًا للحركة الرمزية، حيث يتمركز الإنسان حول مركزية المقدّس، ويُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والخالق.

أما السعي بين الصفا والمروة، فيحمل رمزية خاصة مستمدة من قصة هاجر، ويُعبّر عن فكرة الجهد الإنساني والاستجابة الإلهية، وهي ثنائية محورية في كل الديانات، مما يمنح الشعيرة بُعدًا إنسانيًا فريدًا.

ويمثل الوقوف بعرفة اللحظة الأقوى في تجربة الحج الرمزية، إذ يتحقق فيه «تجلٍّ جماعي»، تنحلّ فيه الفوارق بين الأفراد، وتذوب الهويات في مشهد يذكّر بالوقوف في يوم القيامة.

أما المبيت في مزدلفة، فهو شعيرة ليلية تعزز الشعور بالوحدة والتأمل، وتؤسس لنمط من التواصل الروحي الجماعي بعيدًا عن ضوضاء الحياة اليومية، مما يجعله لحظة إعادة توازن بين الفرد والمجتمع في فضاء رمزي خاص.

وفي يوم العيد، وهو الحج الأكبر الذي تتجسد فيه أكثر الشعائر وأعمق الرموز الطقسية؛ حيث يرمز رمي الجمرات عن تطهير النفس من نوازع الشر، ضمن «طقوس الإزاحة»، وتسقط ما بداخل النفس من صراعات.

أما ذبح الهدي، فيعيد تمثيل سردية الفداء، ويُجسد مفهوم الطاعة الكاملة لله تعالى، وهي طقوس تشير إلى التضحية والعطاء والانقياد كبُنى رمزية تعيد تنظيم القيم داخل الذات المؤمنة.

والتحلل من الإحرام يمثل نهاية الدورة الشعائرية وبداية طور جديد من الهوية، ويتجسد هذا التحول عبر الحلق أو التقصير، ويُعد لحظة «انعتاق» رمزية من الحالة الطقسية والعودة إلى الحياة اليومية بهوية روحية متجددة.

وتُظهر الدراسات المقارنة - كما في «الموسوعة البريطانية» - أن كثيرًا من هذه الطقوس تتكرر بصيغ مختلفة في ثقافات وديانات متعددة، مما يُشير إلى وجود حاجات بشرية مشتركة تعبّر عنها الطقوس الكبرى، وهو ما أكده محمد لبيب البتنوني في تأريخه للحج بوصفه ظاهرة إنسانية عابرة للثقافات، تحتفظ بخصوصيتها وتُجسد مشتركًا رمزيًا عالميًا.

البعد التاريخي في الحج

بدأ الحج كأثر توحيدي عميق في التاريخ الديني، مرتبطًا بإبراهيم عليه السلام، الذي دعا الناس إلى زيارة البيت العتيق بعد أن رفع قواعده، وفي هذه المرحلة، كانت الشعائر يسيرة وموجهة نحو التوحيد الخالص.

لكن مع مرور الوقت، ووسط التحولات الدينية والاجتماعية في جزيرة العرب، تغيّر مسار الحج من شعيرة توحيدية إلى ممارسة وثنية، امتزجت فيها العقائد بالأساطير، وتحول البيت إلى ساحة للأصنام، ففقدت المناسك دلالتها الأصلية، وتحولت الرموز إلى طقوس شكلية فاقدة للبُعد العقدي الأصيل.

وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم توجيه الحج نحو معناه التوحيدي، خاصة في حجة الوداع، التي جاءت بمثابة لحظة تأسيسية لترسيخ الحج في صورته الإسلامية؛ حيث تحددت المناسك بشكل واضح، وربطت بالشريعة والمقاصد الكبرى للدين، فصار الحج ممارسة جماعية تكرّس مفهوم المجتمع الواحد. وتغيّر الحج من ممارسة تقليدية محلية إلى حدث ديني عالمي يعكس وحدة المسلمين.

ومع اتساع الدولة الإسلامية، خاصة في العصور الأموية والعباسية، بدأ الحج يدخل مرحلة جديدة من التنظيم المؤسسي، وأصبحت الدولة مسؤولة عن تأمين الطرق، وإنشاء محطات المياه، وتوفير الأمن على طول المسارات.

وتحوّل الحج إلى مشروع تنظيمي مركزي، يعكس قدرة الدولة على التحكم في الفضاء الديني والإشراف عليه، فأنشأت «درب زبيدة» لتسهيل الرحلة، وأصبح الحج مسرحًا للقاء المسلمين من أقاليم متعددة، مما عزز من دور الحج كوسيلة للتبادل الثقافي والسياسي بين أطراف العالم الإسلامي.

ودخل الحج في العصر الحديث منعطفًا تقنيًا غير مسبوق، بعد أن أصبحت المملكة العربية السعودية مسؤولة عن تنظيمه، حيث بدأت في توظيف وسائل النقل الجوي والبري والبحري والتقنيات الذكية وأنظمة إدارة الحشود والعلوم الحديثة، لتأمين التجربة وتطويرها.

وقد انعكس ذلك على شكل الحج من حيث الراحة والتنظيم وتنوع الخدمات، ما أدى إلى ظهور أنماط مختلفة من تجربة الحجاج.

خمس قضايا أنثروبولوجية

تفتح دراسة الحج من منظور أنثروبولوجي بابًا لفهم كيف تتفاعل الشعائر الدينية مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المعاصر. ومن خلال تحليل بعض القضايا المرتبطة بالحج، يمكن رصد التحولات التي تطرأ على الممارسة الدينية عند اصطدامها بمفاهيم مثل التنظيم والسوق والحداثة.

الزحام والتنظيم

يمثل الزحام في الحج حالة معقدة، حيث يتشكل ما يسميه فيكتور تيرنر «الفضاء الانتقالي»، الذي يذوب فيه الفرد في الجماعة، ويُعلَّق فيه الدور الاجتماعي المعتاد. لكن هذا الفضاء الذي يفترض أن يعزز الشعور بالمساواة والانصهار الجماعي، يتحول عمليًا إلى تحدٍ إداري كبير، خاصة مع كثافة الأعداد وتكرار مشاهد التدافع أو الوفيات، ما يفتح المجال لتحليل العلاقة بين القداسة والانضباط المكاني.

يصبح الحج اختبارًا لقدرة الدولة على إدارة «الفضاء المقدس» دون المساس بجوهره الروحي، ويظهر هنا التوتر بين نموذج الطقس كما ينبغي أن يكون، ونموذج التنظيم كما تفرضه اعتبارات الأمن والسلامة.

الاستهلاك الديني

تُثمَّن الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة في تسهيل أداء المناسك عبر بنى تحتية متقدمة وخدمات لوجستية متكاملة، تسهم في تحسين جودة التجربة الدينية لملايين الحجاج سنويًا.

وقد شهد القطاع الفندقي والحج الاستثماري تحوّلاً نوعيًا، يعكس الرؤية المستقبلية للمملكة في مواءمة التنظيم الديني مع متطلبات العصر الحديث.

وتوجد طبقات مختلفة في تجربة الحج، تمتد من إقامة في خيام مناسبة لظروف المشاعر المقدسة، إلى خدمات فندقية فاخرة توفّرها شركات متخصصة. ولا يعبر هذا التنوع بالضرورة عن خلل، وإنما يؤكد على قدرة الدولة على استيعاب شرائح متعددة من الحجاج، وتقديم خيارات مرنة تراعي احتياجاتهم المتباينة.

ويمكن فهم هذه الظاهرة ضمن إطار «الاستثمار الطقسي»، حيث تتقاطع القيم الدينية مع أنماط استهلاكية حديثة. فكلما ارتفعت القدرة الاقتصادية، ازدادت إمكانية الوصول إلى خدمات مخصصة.

ويظل التحدي القائم هو في تحقيق التوازن بين الحفاظ على روح الشعيرة، وتقديم خدمات تتماشى مع احتياجات الحجاج المعاصرين ضمن إطار من العدالة والاحترام للتنوع الاقتصادي والثقافي.

الصحة والوباء

مع ازدياد أعداد الحجاج وتنوع خلفياتهم الجغرافية والصحية، أصبح الحج نموذجًا مثاليًا لدراسة «السياسات الحيوية» في المجتمعات الدينية، كما طرحها ميشيل فوكو. فالجسد وسيلة لعبادة الله، ويصبح أيضًا وحدة بيولوجية قابلة للرصد والتقييم. وتُظهر الإجراءات الوقائية مثل التطعيمات، والفحص الطبي، وتنظيم المسارات، كيف تدخل الدولة في إدارة الجسد ضمن شعيرة جماعية.

لقد تحوّل الحج إلى مجال تُطبّق فيه أنظمة الصحة العامة، ضمن منطق «الضبط الوقائي»، الذي يدمج علاقة الإنسان بالشعائر، عبر الامتثال للمعايير الطبية، فالقداسة تُعاد صياغتها ضمن شروط علمية وتقنية دون أن تختفي، مما يخلق توازنًا جديدًا بين الإيمان والعقل التنظيمي الحديث.

الروحانية الرقمية

بدأت تتشكّل ملامح جديدة للتجربة الدينية، مع تصاعد دور التقنية الرقمية في تنظيم مناسك الحج، يتداخل فيها المقدّس مع الوسيط الرقمي، فقد أصبحت الطقوس محاطة بوسائط رقمية تشمل التطبيقات الذكية، والخرائط التفاعلية، والتوثيق المصوّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى إعادة تشكيل العلاقة التقليدية بين الجسد والمكان الطقسي.

يعتمد كثير من الحجاج اليوم على تقنيات توجههم وتنسّق حركتهم في الأماكن المقدسة، مما أوجد نوعًا من الوساطة الرقمية التي تؤثر في حضورهم المكاني والروحي.

كما برز شكل جديد من التمثيل الرمزي للحج، من خلال مشاركة الصور والفيديوهات الشخصية، حيث تتحول الرحلة الروحية إلى سردية رقمية تُقدَّم للعالم كقصة فردية تتداخل فيها الابتهالات مع الهوية الرقمية.

تفتح هذه التحوّلات الباب أمام تساؤلات عميقة حول طبيعة الروحانية في العصر الرقمي؛ فبينما تتيح الرقمنة فرصًا للتوثيق والتواصل، قد تُقوّض في الوقت نفسه الطابع التأملي الذاتي للشعائر، حين تتحوّل إلى عروض رقمية تخضع لشروط الخوارزميات، مثل عدد المشاهدات وحجم التفاعل.

البعد الاقتصادي

بدأ يتطور «طقس العبور» في الحج تدريجيًا من إطاره التقليدي كعبادة جماعية زاهدة، ليدخل في فضاء تتقاطع فيه الدوافع الروحية مع المنطق الاقتصادي في ظل تحوّل السوق إلى فاعل محوري في تنظيم تجربة الحج.

يطرح هذا التحوّل أسئلة عميقة حول أثر الرأسمالية الحديثة في إعادة تشكيل الشعائر، وتحويلها من لحظة تأمل جماعي إلى مشهد اقتصادي ضمن ديناميكيات السوق.

لقد أصبحت مناسك الحج قوة اقتصادية ضخمة، تحرّك قطاعات متعددة مثل النقل والضيافة والسياحة والخدمات الذكية، مما يجعل الشعيرة تمثّل نقطة التقاء بين الديني والتنموي.

ويتجلى الحج كمثال حي على كيف يمكن للطقوس أن تُعاد قراءتها بوصفها محركًا اقتصاديًا، يتوافق مع قيم الاستهلاك الفاخر والرفاهية العالية في العصر الحديث.

لكن هذا التشابك بين الروحي والمادي يدفع للتساؤل: هل تُغني هذه الديناميكية الاقتصادية التجربة الروحية؟ أم أنها تسهم في إفراغها من معناها الأصلي عبر تحويلها إلى منتج يُستهلك ضمن دورة السوق؟

ختاماً

تُظهر دراسة الحج أن هذه الشعيرة تتجاوز كونها ممارسة دينية، فهي تجربة جماعية تعيد تشكيل هوية المسلم، وتُقوي شعور الانتماء لدين واحد، من خلال الطقوس المختلفة، حيث يمر الحاج برحلة رمزية تعكس مفاهيم المساواة، والتجرد، والتقرب من الله تعالى، مما يجعل الحج مساحة يتلاشى فيها الاختلاف الاجتماعي مؤقتًا، ليحل محله شعور مشترك بالروحانية والانتماء.

ومع التطورات الحديثة في التقنيات والتنظيم، تغيّرت بعض ملامح تجربة الحج، دون أن تفقد معناها الأساسي. ورغم دخول عناصر جديدة، مثل الخدمات الفاخرة والتطبيقات الذكية، يظل الحج مجالًا غنيًا لفهم العلاقة بين الدين والمجتمع. فهو يقدم نموذجًا حيًا لكيف يمكن للشعائر أن تواكب العصر، وينقسم فيها الحجاج ما بين المحافظة على جوهرها الروحي العميق، أو التأثر بجوهر التواصل الرقمي.

عناصر نسائية تشارك في خدمة الحجيج الحج قديماً

التفاصيل من المصدر - اضغط هنا :::

مشاهدة أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج

يذكر بـأن الموضوع التابع لـ أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج قد تم نشرة ومتواجد على جريدة الرياض وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج.

في الموقع ايضا :

الاكثر مشاهدة ثقافة وفن
جديد الاخبار