المعتزلة الجدد وتأويل النص القرآني ...قطر

اخبار عربية بواسطة : (إسلام أون لاين) -

 نقصد بالمعتزلة الجدد أنصار الحداثة الذين يروجون لأفكار يحاولون من خلالها طمس قدسية النص القرآنى، ويعتمدون في الظاهر على التأويل الذى مارسه المعتزلة القدامى للوصول الى أهدافهم المشبوهة والحقيقة انهم وان حاولوا إبراز التشابه بينهم وبين المعتزلة في استخدام التأويل، ويرددون دائما ما يوحي بأنهم امتداد لفكر المعتزلة إلا أن المتأمل في فكرهم سيجد أن استخدامهم التأويل كألية لفهم النص القرآنى الهدف منه يغاير تماما ما كان يهدف إليه المعتزلة، وهو ما يقطع بانتفاء الصلة بينهم ولايمكن اعتبارهم امتدادا لفكر المعتزلة القدامى، وهو ما نتناوله على النحو التالي.

افضل لابتوبات الجيمينج بأسعار ممتازة في السعودية اطلبها ألأن

التأويل.. المَخرَج السحري لإعلاء العقل على النص يعد التأويل أحد أسلحة المعتزلة الجدد في إهدار قيمة النص أيًّا كانت طبيعته دون تفرقة بين نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة أو نص يحتاج إلى تفسير،  كما أنهم لا يفرقون بين طبيعة النصوص المتعلقة بالعبادة أو المعاملات والأوامر والنواهي فكل النصوص هي على محك التأويل وهذا التأويل يرتكن أساسًا على عنصرين أولهما أنسنة النص،  ثانيهما تاريخيته،  وتفصيل ذلك وآرائهم يحتاج إلى مجلدات لكن نبدأ بالقدر الذي يتواءم مع سياق هذه الدراسة..

التأويل لدى المعتزلة الجدد إن المعتزلة الجدد لا يمكن فصلهم عن ذلك التيار العلماني الذي فشا في الدول الإسلاميّة والعربية متأثرًا بمناهج الغرب داعيًا إلى السير في ركابه دون وعي أو إدراك، مرجعًا كل نقيصة وتخلف في مجتمعاتنا إلى الدين. وأسوأ ما في هذا الاتجاه أنه تحت النزعات المادية الغربية أو الماركسية الواضحة في أحيان أخرى، لا يفرق بين دين وفقه ونص ومعنى،  المهم أن أصحاب المنهج العقليّ ومن خلفهم العلمانيون وجدوا في التأويل ضالتهم والمنقذ لهم والحل السحري للخروج على كل ثابت ومهاجمة كل ذي قيمة لإفراغ الدين من مضمونه الحقيقي.

هذا التأويل يُمكِّن هذه الاتجاهات من الوصول إلى أهدافها سواء بسوء نية أو حسن نية، ويعتبر البعض من هذا الاتجاه أن التأويل هو الطريق الملكي الذي انتهجه العقل العربي في طلب الحق بل إنه في النهاية كل عقل في تعامله مع النص وفي قراءته لتاريخه.([1])

المعتزلة الجدد لا يمكن فصلهم عن ذلك التيار العلماني الذي فشا في الدول الإسلاميّة والعربية متأثرًا بمناهج الغرب داعيًا إلى السير في ركابه دون وعي أو إدراك

ولكن الحقيقة أيضًا أن التأويل ليس طريقًا إلى الحق دائمًا وإنّما هو طريق إلى التشويه والتضليل وإلى العبث بالنصوص؛ انظر إلى ما يقوله البعض “مع أن مبرر كل مفكر جدير بلقبه أن يمارس التفكير بطريقة مغايرة للذين سبقوه إذا لم يشأ أن يكون مجرد شارح مبسط أو تابع مقلد أوحارس مدافع عن العقيدة والحقيقة والتفكير بصورة مغايرة يعني أن نبدل وننسخ أو نحرف ونحور أو نزحزح ونقلب أو ننقب ونكشف أو نحفر ونفكك أو نرمم ونطعم أو نفسر ونؤول،  فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص لا أزعم أني أقوم بحصرها واستقصائها([2]) إنها جميعًا معانٍ وآليات ممكنة لقراءة النصوص والتفكير فيها ومن هنا نجد أركون مشتغلاً منذ زمن بتأويل النص المقدس، أو الذي يقول عن هذه القدسية إنها قداسة تراكم الزمن ومرور القرون،  ويضيف صاحب هذا الكلام الأخير وهو أركون القول أنا أعلم أن الغاية المستمرة لهذا النص المقدس تكمن في ترسيخ معنى نهائي وفوقي وتاريخي للوجود البشري ([3]).

ويقول البعض إذا كان أركون يعلم الغاية المستمرة للنص المقدس لماذا تسلك عكس هذه الغاية وأنت مسلم؟ ([4])

وهكذا يبدو اهتمام أصحاب هذا الفكر بالتأويل الذي نرى أنه صرف المعنى ولو كان ظاهرًا إلى معنى آخر يتفق مع معتقدهم الشخصي ولو كان مخالفًا للنص ولأصول التفسير ومناهجه المتبعة والمستقرة،  فالتفسير لا يستهدف أكثر من إيضاح قصد صاحب النص وتوضيح المعنى أواستجلاء غموضه الذاتي وليس صرفه إلى غيره من المعاني بغض النظر عن قصد قائله.

إن هذا الاتجاه من الواضح أنه لا يكتفي بالتأويل إلى صرف اللفظ إلى معنى يحتمله وإنّما أيضًا يطمح إلى أكثر من ذلك،  إلى التفكيك الذي يقطع الصلة بين النص وقائله وبين المعنى واحتمالاته.([5])

ودون إطالة يمكن القول إن هناك آليتين لنجاح فكرة التأويل لدى المعتزلة الجدد،  الأولى وهي تاريخية النص والثانية أنسنة النص. وقد لخص أحد هؤلاء ذلك بوضوح بالغ يعفينا عن الجدال والشرح والمناقشة والتحليل والاستخلاص من أقوالهم فيقول سيادته «إنه منذ أن نزل القرآن الكريم إلى البشر أصبح نصًّا تاريخيًّا لأنه تحول من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل فأصبح كتابًا بشريًّا تاريخيًّا واجتماعيًا وتراثيا»([6]).

أضف إلى ذلك أنهم داخل فضاء هذه الأدوات يستعملون،  كما نوهنا وننوه،  مصطلحات تربك المثقف العادي بل المتخصص وتوهمك أنك أمام عباقرة لم يسبق للزمان أن أنجب أمثالهم.

الأداة الأولى: أنسنة النص كما سلف أن بيَّنا وضوح الفكرة فإنّ أحد أهم أصحاب هذا الاتجاه يقول بوضوح أيضًا: إنه منذ أن انتقل القرآن الكريم من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنى عبر البشر الفرادى والمجتمعين وفق مواقعهم المجتمعية والمعرفة الأيديولوجية.

ويقول أيضًا إن كتاب التنزيل أطلق كتاب التأويل وأحدث معه نمطًا من القطيعة الإبستمولوجية النسبية([7]).

والحقيقة إنني أخشى أن أُرمَى بالجنون إذا علقت على هذا الكلام بعبارة «سمك لبن تمر هندي» كما هو شائع في مصر. وللأمانة العلمية فقد كان أستاذنا الدكتور إدريس الطعان مُحقًا حينما وضع في العبارة الأخيرة لهذا المفكر المتحذلق صاحب الألفاظ الانشطارية المتشظي أكثر من اللازم أكثر من أربعة علامات للتعجب وإن كنت أرى أنه لم يوافِ الرجل حقه فهو يستحق عشرات الصفحات من علامات التعجب؛ فرجل مثلي يكتب الشعر والقصة ينحني إجلالاً واعترافًا بعظمة هذا النموذج من الكُتاب والفلاسفة واستخدامهم اللغة وتوليد مصطلحات جديدة لتخدم أفكارًا جوفاء ومصطنعة،  والأغرب من هذه الألفاظ المشتقة والمستحدثة ما هي إلا تركيب بعض الألفاظ البسيطة والواضحة ليخرج معنى غامض وغير مفهوم كأنه لم يصل إليه أحد قبله من البشر وأن عبقريته هي التي مكنته من ذلك،  فإذا تجاوزنا ألفاظًا مثل التشظي الدلالي المعنى فأتحدى أن يُعرفنا أحد صافي الفكر خالص الذهن معنى عبارة الفضاء الإلهي والفضاء الإنساني وهل هما من جنس واحد أم مختلفان وهل هما لهما ما يدل على وجودهما المادي أو المعنوي؟!!

إنه كلام فارغ وتافه ومتهافت إلى أبعد مدى يمكن تخيله وترويج لبضاعة فاسدة. ولم يخرج أصحابه عن هذا المنهج الغريب،  فأحد عُمُد هذا الاتجاة ورائده يقول: وتحول النص منذ لحظة نزوله الأولى- أيْ مع قراءة النبي له لحظة الوحي- تحول من كونه نصًّا إلهيًّا وصار فهمًا «نصًّا إنسانيًّا» لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. إن فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري،  لقد تأنسن النص. ([8])

وهكذا بوضوح يعلن صاحب هذا الرأي عن تأنسُن النص القرآني.

هل يمكن فهم ماقاله بمعنى آخر غير أن هذا النص تحول إلى نص بشري يسري عليه ما يسري على النصوص البشرية؟

لا أدري هل يمكن تأويل هذه العبارة إلى معنى آخر؟

الحقيقة أن النتيجة الوحيدة هي نزع القداسة عن هذا النص.

ولقد أحسن من قال إنه قد راج عند كثير من الأدباء والمفكرين وغيرهم ممن أجازوا لأنفسهم اعتلاء سنام الفكر الإسلاميّ أن يطلقوا الألفاظ على المسميات كيفما شاءوا وبأي معنى أرادوا، من ذلك إطلاقهم لفظ النص على القرآن الكريم غير قاصدين ما عند علماء المسلمين من أصوليين ومفسرين وفقهاء من مفهومهم لهذا المصطلح، ولا شك أن هدفهم من وراء ترداد هذه الكلمة وهذا المصطلح على آيات القرآن الكريم كان بغية الوصول بكل من يقرأ لهم ويتعلم منهم وعلى أيديهم إلى قضية مساواة النصوص القرآنية بالنصوص النثرية والشعرية،  حتى إذا ما وجدت هذه الفكرة استقرارًا في نفوسنا وتَمَكُّنًا من فكرنا وقبولاً في مكتباتنا نادوا بضرورة تحكيم القواعد والأسس التي تستخدم في دراسة تلك النصوص النثرية والشعرية وتطبيقها على آيات القرآن الكريم وسوره من أجل تسفيهها وردها وإزالة القداسة عنها،  فيصير النص القرآني نصًّا أدبيًّا مات صاحبه يماثل النصوص الشعرية،  ويصير بذلك ديوانًا للعرب باعتبارالشعر ديوان العرب،  وما جاز على النص الشعري جاز على النص القرآني. ([9])

حتى حينما يحاول أبو زيد أن يقنعنا بأن القدسية للفظ وليست للمعنى،  وهو كلام جميل ويمكن فهمه أن المقدس هو كلام الله أما فقه البشر فلا،  فإن قسوة هذه العبارة لا تكشف أبدًا عن حُسن نية الكاتب.

إن أصحاب هذا الاتجاه يتقنون اللعب بالألفاظ والتلاعب بالعبارات فاللفظ لا يفضي أبدًا إلى بعض الأفكار التي يحاولون من ورائها خلق القبول والادعاء بأنهم يُحيون التراث ويدعون إلى هدم قداسة الفكر البشري لصالح النص المقدس.. كيف ذلك ونحن نتعامل مع النص على مرحلتين،  مرحلة العلاقة بين الموحي (جل وعلا الخالق الأعظم) والرسول (ﷺ) المتلقي؟

هل تبقى القداسة في هذه الحدود؟

ثم بعد أن ينقله الرسول لنا نتعامل معه كقصائد الشعر الجاهلي والمعلقات وأشعار عنترة والمتنبي وغيرهم،  بل وأدونيس أحد أصحاب هذه النزعة؟

فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا.. لا عصمة ولا قدسية لمفكر ولا فقيه ولا لفقه ولا لفكر لكن النص يبقى إلهيًّا خالصًا يُحترَم ويُتعبَّد به ولا يمكن تحت أيّ ظرف كما قلنا معاملة نصوص القرآن ــ حتى لو صح رأيهم ـــ ككل واحد فنساوي بين المجمل والمفصل والعام والخاص والمطلق والمقيد.. هذا من حيث الدلالة،  أما المضمون فكيف نتناول النص القاطع الثابت الدلالة وفيما يخص العبادات ونعامله بنفس المستوى الفكري الذي نتعامل به مع نص يتصل بالمعاملات؟ كيف نتعامل بذات المنهج مع قوله تعالى {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}،  وقوله تعالى {فرهان مقبوضة}؟

إن الغرض من أنسنة النص القرآني هو نزع القداسة عنه وأن تكون معانيه مستباحة لكل من يدعي الفهم وله عقل فتختلط المعاني وتضطرب العقيدة ويصبح نسبيّ المفهوم بشريّ الدلالة. ولقد وصلت الكارثة والطامة الكبرى إلى أن بعض غلاة هذه الآراء يقول إن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت بل هو مجموعة من المتغيرات يقرأ كل عصر فيه نفسه ([10]).

وهذه العبارة تنقلنا إلى الأداة الأخرى،  وهي تاريخية النص..

التاريخية مع الأخذ بالسبب دون عموم اللفظ وقصر النص على سبب النزول من شأنه أن يعطل النص القرآني ويوقف الحكم الوارد فيه

الأداة الثانية: تاريخية النص تاريخية النص،  أو تاريخانية النص كما يطلق عليها البعض، والتي يعنيها أصحاب المدارس العقليّة الحديثة في قراءة النص،  أو كما يشار إليهم في العصر الحديث بالعصرانيين،  يمكن تلخيصها في عبارة واحدة وبسيطة هي أن النص يرتبط ببيئته الجغرافية والزمنية والطبيعية وأن حدود استخلاص معانيه تقف عند حدود الزمن واللحظة التي نزل فيها من حيث أبعادها الجغرافية والاجتماعية والبشرية،  ثم إنه يمكن استخلاص دلالات أخرى بحسب العصر والبيئة التي يُقرأ فيها النص،  لذلك ربط أصحاب هذا الاتجاه النص بأسباب النزول ومسكوا وتمسكوا بها محاولين إلغاء المبدأ الأسمى في التشريع الإسلاميّ المستمد من النص القرآني أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ومما لا شك فيه أن التاريخية مع الأخذ بالسبب دون عموم اللفظ وقصر النص على سبب النزول من شأنه أن يعطل النص القرآني ويوقف الحكم الوارد فيه وصولاً إلى تطبيق الأفكار العلمانية والتأويل العقليّ الذي يخدم أصحاب هذا الاتجاه،  فمثلاً لماذا لا نساوي المرأة بالرجل في كل حالات الميراث باعتبار أن النصوص التي وردت في هذا الشأن تتعلق بأسباب نزولها أما ونحن في عصر المساواة المطلقة فلماذا لا يكون ذلك؟

فبالنسبة لفكرة التاريخية فهي بهذا المعنى لا تخرج عن إخضاع النص لأثر الزمان والمكان والمخاطَب مطلقًا، والمقصد الذي تدور حوله كل تنظيرات هذا الاتجاه هو التنصل من سلطة النص ومعياريته وقداسته وشموليته وإطلاقيته سواء اعترفوا بذلك أم لا ([11]).

ويقول أحد منظري هذا الاتجاه إننا نقصد بالأرخنة هنا الكشف عن تاريخية الخطاب القرآني عن طريق ربطه بالبيئة الجغرافية والطبيعية والبشرية والقبلية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ومعلوم أن الخطاب القرآني كان قد برع في التغطية على هذه التاريخية عن طريق ربطه نفسه باستمرار بالتعالي الذي يتجاوز التاريخي الأرضي كليًّا أو يعلو عليه ([12]).

والبعض قال إن التاريخية المتعلقة بالنص تعني ارتباطه باللحظة التاريخية التي صدر فيها ([13]). وبلغ الأمر بأحد الكتاب من هذا الاتجاه أنه اعتبر أن الشريعة كلها تاريخية ولم يستثنِ إلا عقيدة التوحيد ومكارم الأخلاق والعدل بين الناس،  فتلك -على حد قوله- هي الأصول الخالدة والجواهر الثابتة،  أما سوى ذلك فما ينبغي أن نقف به عند حدود الإسلام الأول، لأنها من الأحوال العارضة للبشرية والمتغيرة فإذا ذهبت ذهبت معها أحكامها وليس في ذلك ما يضير الإسلام مثل العبيد والإماء وتعدد الزوجات مما لا يمكن اعتباره جزءًا من الإسلام ([14]).

وعلى ذلك فهم ينتقلون من هذا المفهوم إلى مفهوم آخر وهو ارتباط الحكم من جهة بسبب نزوله والبيئة والزمن الذي نزل فيه،  يقول أحدهم ويبرز ذلك في قضية الميراث مثلاً: «إن الإسلام لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا يتخطاها،  والمرأة اليوم بتأثير العصر وروحه أصبحت تسير جنبًا إلى جنب مع الرجل في كل المجالات والأحوال وأصبحت تزاحمه هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوافرت الوسائل الموجبة» ([15]).

ويقول نصر أبو زيد في وضوح وتفسير لفكرة التاريخية: ليس معنى القول بتاريخية الدلالة تثبيت المعنى الديني عند مرحلة تشكل النصوص، ذلك أن اللغة هي الإطار المرجعي للتفسير والتأويل ليست ساكنة ثابتة بل تتحرك وتتطور مع الثقافة والواقع وإذا كانت النصوص كما سبقت الإشارة تسهم في تطوير اللغة والثقافة من جانب أنها تمثل الكلام في النموذج السوسيري فإن تطور اللغة يعود ليحرك دلالة النصوص وينقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز وتتضح هذه الحقيقة بشكل أعمق بتحليل بعض الأمثلة من النص الديني الأساسي وهو القرآن.

ويستطرد ليضرب أمثلة من النص الأساسي وهو القرآن([16])،  منها وصف الله (عز وجل) في القرآن الكريم بأنه ملك له عرش وكرسي وجنود والحديث عن اللوح المحفوظ والقلم،  ويرى سيادته أنها فُهمت في وقتها وزمنها فهمًا أسطوريًّا تجاوزه الواقع الحالي،  وعلى حد تعبيره قد تجاوزها الواقع والثقافة وانتفى ذلك الفهم من الواقع لصالح واقع إنساني جديد ومفاهيم أفضل([17]). ويشير أيضًا إلى الانتهاء والانقضاء التاريخي بسبب مبدأ تاريخية النص القرآني: «طبعًا نظام العبودية والرق وملك اليمين وكذلك نصوص السحر والحسد والجن والشياطين»،  ويرى أن الحديث عن السحر وَرَدَ في سياق تاريخي وقصص تاريخي فالنص يعتبره مجرد شاهد تاريخيّ([18]).

ويردد أبو زيد هذه المعاني بعبارات مختلفة في مواضع كثيرة،  فيرى أن الإسلام والقرآن كلاهما واقعة تاريخية ([19]) أوقوله «القرآن إذن خطاب تاريخي… لا يتضمن معنى مفارقًا جوهريًّا ثابتًا ([20]) وأيضًا ليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي الاجتماعي جوهرها الذي تكشفه النصوص»([21]).

وربط البعض بوضوح بين التاريخية وأسباب النزول فيقول: «إن الوحي ليس مُعطّى من الله في لا زمان ولا مكان بل هو تنزيل إلى البشر وحلول في التاريخ وتوجيه للوقائع فقد ارتبط الوحي بالمجتمع وبالتاريخ وبحياة الناس اليومية وبأزماتهم وأفراحهم وأحزانهم»([22]).

ثم ينتقل هذا الخطاب خطوة أخرى معتبرًا أن «التاريخية» قدم لها «أسباب النزول»،  والخطوة التي تعنيها هي في حقيقتها نتيجة خطيرة تناقض أصولاً مستقرة لا خلاف عليها وهي أن العبرة بعموم اللفظ وليست خصوص السبب،  فالبعض يعتبر هذه القاعدة الأصولية المهمة قاعدة مزعومة خطيرة نشأت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقليّ وعصور التخلف([23]).

ويقول أحد منظري هذا الاتجاه إن التمسك بقاعدة «عموم اللفظ» وإهدار «خصوص السبب» في كل نصوص القرآن من شأنه أن يؤدي إلى نتائج يصعب أن يسلم بها الفكر الديني.

إن أخطر هذه النتائج للتمسك بعموم اللفظ مع إهدار خصوص السبب أنه يؤدي إلى إهدار حكمة التدرج التشريعي في قضايا الحلال والحرام ومجال الأطعمة والأشربة،  هذا إلى جانب أن التمسك بعموم اللفظ في كل النصوص الخاصة بالأحكام يهدد الأحكام ذاتها([24]).

ومعنى: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؛ أيْ: إذا ورد لفظ عام وسبب خاص،  فإنه يحمل على العموم،  ولا يختص بالسبب؛ فكل عامٍّ ورَد لسبب خاص – من سؤال أو حادثة- فإنه يُعمَل بعمومه،  ولا عبرة بخصوص سببه؛ لأن الشريعة عامة،  فلو قصر الحكم فيها على السبب الخاص،  لكان ذلك قصورًا في الشريعة،  فما الفائدة أن ينزل الحكم لهذا السبب دون غيره؟! والشريعة معروف أنها لكل العالَمين،  وما دامت الشريعة عامة،  فلا يُعقَل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين،  وإنما يكون الأصل عموم أحكامها،  إلا ما دلَّ دليل على خصوصيته،  فإنه يُقصَر على ما جاء خاصًّا فيه. ([25])

إن النهاية التي يصل إليها هذا الاتجاه من خلال مفهومه للتأويل والتركيز على جناحين له هما أنسنة النص وتاريخيته يُفضي إلى اقتلاع قدسية النص وتحويله إلى محض حكم نسبي مؤقت ويُفقده إلزامه.

هل يمكن اعتبار مفهوم التأويل لدى هذه المدرسة امتدادًا للفكر المعتزليّ؟ وقد حاول بعضهم بالفعل ترديد ذلك فيقول إن المعارضة للتصور الأشعري للقرآن أو السني للقرآن لا تأتي بكلام مجلوب من الخارج من أوروبا أو عصر التنوير أو السوربون وإنّما من داخل التراث الإسلاميّ ذاته. وينتهي هذا الرأي إلى اعتبار أن الأزمة الحقيقية وُلِدت مع انتصار الأطروحة الثانية،  أيْ أطروحة الحنابلة القائلة بأن «القرآن غير مخلوق» هي التي انتصرت وترسخت في التاريخ وحُذفت مقولة المعتزلة التي لم تنتصرإلا لفترة غيرقصيرة وفي الأوساط العقلانية المستنيرة أيام المأمون بشكل خاص ([26]).

الغاية والوسيلة،  أيْ المقصد والمنهج،  بين المعتزلة الجدد والقدامى مختلفة تمامًا ومحاولة الربط بينها هي من قبيل التدليس الفكري

ويستطرد صاحب هذا الرأي أنه لا بد من فتح ثغرة في الجدار المسدود للتاريخ لأن هذه الأطروحة الاعتزالية تعني بكل بساطة أن القرآن بحاجة إلى وساطة بشرية. أن تقول بأن القرآن مخلوق فهذا يعني أنه متجسد في لغة بشرية هي هنا اللغة العربية ([27]).

إذن،  هم يُحمِّلون انهزام المعتزلة السبب في ذيوع وانتشار وتسيُّد فكرة أزلية النص أو قدسيته ومِنْ ثَمَّ ضرورة بعث الفكر المعتزليّ اليوم من شأنه أيضًا -على حد قولهم- أنه سيمتلك الوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تنهال على الفكر المعاصر من كل حدب وصوب بمصداقية أكبر وابتكار أقوى وأعظم ([28]).

ودون غوص في تناول هذه الإشكاليّة لتجاوز نطاق البحث ([29])،  فإنه بالتأكيد لا يمكن أن تنجح مثل هذه المحاولة ليس لأن الأسلوب والمنهج مختلفان بينهم وبين المعتزلة الأوائل بل يكفي أن المعتزلة الأوائل كانوا يحاولون من خلال التأويل وقضية خلق القرآن إضفاء القداسة والسمو على النص القرآني وليس النزول به إلى مستوى البشري،  فلا يمكن أن يكون أصل التأويل الحديث إلا المناهج الغربية التي أفرزت أسلوبًا جديدًا لقراءة وفهم النصوص الدينية فالغاية والوسيلة،  أيْ المقصد والمنهج،  بين المعتزلة الجدد والقدامى مختلفة تمامًا ومحاولة الربط بينها هي من قبيل التدليس الفكري.

وسنرى ذلك في الفصل القادم تفصيلاً عند عرضنا لاختلاف مناهج التفسير وغايتها بين المعتزلة الجدد والقدامى،  ولو صحت وجهة النظر لكانت النتيجة واحدة فالمعتزلة القدامى قالوا بكون القرآن غير مخلوق ليسمو وتعلو قدسيته بينما المعتزلة الجدد يستخدمون تأويلهم ليصلوا إلى أنه نص تاريخي وإنساني يجري عليه ما يجري على النص الأدبي والفلسفي. وهم بإيجاز يبحثون عن فهم المتلقي ويُعلون من كلمته مع مراعاة أن المتلقي يختلف باختلاف ثقافته وبيئته وتكوينه وإدراكه،  أما المعتزلة فيقدسون قصد الشارع أيْ المولى (سبحانه وتعالى) الذي هو بالتأكيد قصد ثابت ما قامت علته وظلت حكمته ولم تتبدد غايته.

اقرأ المزيد في:  المعتزلة الجدد وتأويل النص القرآني - إسلام أون لاين

التفاصيل من المصدر - اضغط هنا :::

مشاهدة المعتزلة الجدد وتأويل النص القرآني

يذكر بـأن الموضوع التابع لـ المعتزلة الجدد وتأويل النص القرآني قد تم نشرة ومتواجد على إسلام أون لاين وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، المعتزلة الجدد وتأويل النص القرآني.

في الموقع ايضا :

الاكثر مشاهدة اخبار عربية
جديد الاخبار