تخيل أيها العربي عالماً تسيطر عليه بقبضة من حديد خطط ودسائس ومكائد الجن بشقيه الكافر والمؤمن والشياطين. تصور أنك تعيش في بيئة تعادي الآدمية وقيم الاستخلاف أرضا. ألا تختنق من إجبارية الالتزام بالصمت بذريعة ايهام نفسك بوصولك إلى مراتب النضج والحكمة والتبصر؟ أليس وراء انزوائك وعزلتك وتخليك عن واجب التدافع هو مصلحة ذاتية غير مشروعة أو “خوف” بأبعاد هلاك مروعة؟
ألا يصيبك الهلع على مدى الساعة مقاوما المتربصين بك والمراقبين لأقوالك وأفكارك وتحركاتك؟ ألا يصيبك الهلع أكثر عندما تعتبر نفسك أنك تحت مجهر مراقبة حكومة بلادك وأجهزة القوى المنتصرة التي تطمع في إنهاء إعادة كتابة مجلدات وسجلات التاريخ بمنطقها الخاص بعيدا عنك وعن أمثالك؟
ألا يخاطبك ضمير الجرأة فيك وأنت تتابع تفشي اعتماد أساليب القمع الغرائبية لإغلاق كل منافذ محاولات التفكير الإنساني الحر؟ ألا تكتئب عندما تلوث مسامعك قولة “الفلسفة مشأمة”؟ ألا تمتعض من انجذاب الأهالي للتفاهة والعبث وابتعادهم عن واجب الدرابة العقلية واليدوية لتطويع الطبيعة والحفاظ عليها وتحقيق تراكم الإنتاج المحسن لأنماط العيش؟
تساؤلات وأخرى داهمتني وأنا أقرأ رواية “خوف” بأجزائها الثلاث من أولها إلى آخرها للأديب السعودي أسامة المسلم.
فعكس ما قيل ويقال في شأنها، أعتبرها من الأعمال الأدبية التي تستحق القراءة والتأمل. امتزج فيها الواقع بالخيال لإنتاج الرمزية والدلالة. عبر الكاتب عن فكر الشباب بدون أن يروج للفردانية كما فعل الفيلسوف الألماني نيتشه.
أبعاد الرواية وكأنها دعوة لإعادة بناء السياسة عند العرب. بقي الكاتب في عمق المجتمع ولم يتخطى التاريخ مبرزا الأهمية القصوى لمفهوم التكيف في هذا الزمن الصعب بأهدافه وكائناته المخيفة. وبذلك فهو لم يختر مواجهة الكون بما فيه وبما ليس فيه.
اضطر السارد (الإنسي) وشخصياته العيش في عالم غرائبي يستخدم تقنيات متطورة وخارجة عن المألوف لمراقبة الأفراد، والتحكم في المعلومات، وتفشي الخداع والضغينة، وقمع أي تمرد… عبارة المدخل “لماذا تأخرت…تذكر قبل أن تدخل أنك لن تخرج…” تم انتقاؤها لتتصدر أفكار وأبعاد فصول الرواية لزرع الخوف في نفس القارئ. دخول عالم التدافع بآلية التكيف الفاعل اعتبره الكاتب، بالرغم من مخاطره ومعاناته المضنية، واجبا من واجبات الانتماء الترابي، وفي نفس الوقت وفاء لأمانة الوجود الفردي في دار الفناء.
عشرية السبعينات اعتبرها السارد مرحلة هامة بالنسبة للمجتمع السعودي. لقد ولد مبتسما بدون أن يطلق صرخة البكاء الطبيعية المعتادة المميزة لولادة البشر أرضا. إنها ابتسامة الاستعداد لاستقبال الحياة بمنطق الفعل وفرص الحظ المفتوحة في بلاد مسقط رأسه. لقد اعتمد الكاتب الواقعية مؤكدا منذ البداية أن دوافع كتابة الرواية أو السيرة الذاتية لا تستهدف تصنيف فئة من مجتمعه أو عزل فئة دون غيرها.
في نفس الآن يبقى هذا التصنيف والوعي بمعتقدات وعادات المجتمع ذا أهمية بالغة للأدباء والمفكرين. لقد اعتبر السارد ذلك من أهم أوراق الاعتماد لضمان نفاذ الفكرة الذكية في أذهان الأفراد والجماعات خاصة فئة الشباب اليافع المتطلع للعيش في عالم أفضل.
ابتسم له الحظ في لحظة ولادته. هاجر مع أفراد أسرته إلى أكبر وأعظم وأقوى دولة في العالم. تعلم لغة العلوم، الإنجليزية، كلغة أولى تملكت الزعامة في مسار قيادة الفكر الليبرالي الرأسمالي. التسلح بالأدوات الفكرية اللازمة في ظرف وجيز مكنه من التميز في بلاده بعد عودته إليها وهو لم يتجاوز السنة السادسة من عمره. امتعض من أحكام القيمة الصادرة عن أبناء بلاده. لقد اعتبروا مرارا وتكرارا أمريكا عالم فسق، ولغتها لغة كفر.
لقد فضح الكاتب تعمد التكرار التعسفي المضني لإلباس الأفكار الشعبية حلل بدع سوداء تم التعسف لإلصاقها بالدين الإسلامي. لقد قدم تشخيصا دقيقا للوضعية الثقافية للعرب المسلمين بشكل عام وللشعب السعودي بشكل خاص. ذكرنا هذا الامتعاض بما وقع لابن رشد.
فبقدر ما ربط عشرية السبعينات من حياة السعوديين بأمل التغيير، بقدر ما سارع بأحداث روايته لدق ناقوس خطر ينبئ بزوال مكانة العرب العلمية. بكى تلميذ ابن رشد وهو يتابع الجمهور مبتهجا والنار ملتهبة تحرق كتب معلمه بدون أن يطلع المتجمهرون على مضامينها ورسائلها.
ذكرنا أسامة في روايته بعبارات شبيهة بجواب ابن رشد لتلميذه حيث قال “إذا كنت تبكي حال المسلمين، فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعا، أما إذا كنت تبكي الكتب فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها … “.
سقطت الأندلس يوم أحرقت كتب ابن رشد وبدأت نهضة أوربا يوم وصلتهم أفكاره. التكيف الذي عجز ابن رشد على تحقيقه، يطرحه أسامة المسلم من خلال روايته بشكل جديد وبأسلوب سهل وسلس في العشرية الثانية والثالثة من القرن الواحد والعشرين.
الإسلام، إسلام إبراهيم عليه السلام، ينبني على ثلاثة مبادئ أساسية أولها الاعتقاد بوحدانية الله والإيمان باليوم الآخر والقيام بالعمل الصالح، فتطورت الأوضاع والشعائر إلى أن جاء الإسلام المحمدي بأركانه الخمس. تطورت الممارسات المرتبطة بالمصالح، فاختنقت القيم الإنسانية الأصيلة ذات الأبعاد الزمانية التي تمتد إلى زمن الجاهلية، ونشأ إسلاما موازيا بمنطق المتمشيخين.
الرواية التي بين أيدينا هي بمثابة بحث عن عقلانية بمنطق حماية الوجود العربي في الحاضر والمستقبل. من لا يعرف لن يصمت، بل سيجادل ويخالف شاهرا سيف موروثه الذي أصبح في حد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري.
المعركة لنصرة العقل مستمرة. المعركة كما نظر لها ابن رشد هي في حد ذاتها بحث مستمر لجعل الحكمة مناصرة للنظر في الأشياء حسب ما تقتضيه طبيعة البرهان. إنها الكفاءة التي تحرص بكل السبل على انتقاء النافع في التراث وتيسير الانفتاح على تطورات الحضارة البشرية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
عاد “خوف” إلى بلاده طفلا، فرسخ في الصفحات الأولى من روايته معنى التنشئة التي تستحقها الشعوب. احتضنه الحظ، فشد الرحال إلى بلاد العم سام، فتكونت لديه شخصية مغايرة لأبناء جيله. احتضنه الحظ عندما شاءت الأقدار أن يكون مولودا لأب متعلم وأسرة رَبها مرتبط بالعلم والكتب والسياسة والنماء. تعطل التلفاز.
انبعثت مقومات نشأته في أمريكا التي علمته معنى تدبير الوقت في حياة الإنسان. لم يخرج إلى الشارع للعب مع أقرانه لوأد الفراغ وما يثيره من ملل (لتجاوز ألم ثلاث أيام موحشة). صعد إلى الطابق العلوي من منزل الأسرة، فعثر على ما أسماه بالكنز الثمين.
ارتبط بالمكتبة حتى سن العاشرة. كل يوم يركب على بساط سحري يجول به العالم ومستجدات كشوفاته المعرفية والعلمية. أوضح للقارئ بالحجة والبرهان الأهمية القصوى للغة الإنجليزية بالنسبة للأجيال المتعاقبة. بواسطتها ألم بتراكم التطورات العلمية والتدبيرية الكونية إلى درجة وجد نفسه في فضاء تعليمي في بلاده لا تستجيب مقرراته لحاجياته التكوينية.
الفضاء الذي ترعرع فيه الكاتب/السارد (أمريكا وأسرة متعلمة) مكنه من تحقيق التميز. بجانب أب جمع أهم ما يميز الحضارة الأمريكية من معارف وعلوم تمكن السارد من تحقيق الارتباط بين القراءة والعلوم والفنون (الموسيقى)، وتحقيق النبوغ المبكر لشخصيته. لقد بين في حبكته السردية كيف يُكرس التمييز عربيا مبرزا أسبابه، وكيف تشكل الفئات المجتمعية، منها ما يصنف أفرادها من الفاعلين والزعماء (الأقليات)، ومنها الفئة الأغلبية (قاعدة الهرم الثقافي) المشكلة من التابعين المستسلمين بدون وعي ورغما عنهم للالتحاق بسلاسة بما تمت تسميته ظلما وعدوانا ب “القطيع”.
بتنشئة طفولية غربية واضحة المعالم، تمكن السارد من الاستفادة مما تذخره مكتبة الأب من كتب ومجلات وأسطوانات وأقراص موسيقية. بإشارته إلى مسألة “الحقيبة الدبلوماسية السوداء”، التي تمكن من فتحها والاطلاع على محتواها، أفشى الكاتب للقارئ سر وجودي يتعلق بأبعاد مآلات التنشئة الصحيحة للأجيال. بالمعرفة وتراكماتها عبر التعليم والقراءة في فضاءات التنشئة، يتحول الفرد المستهدف إلى فاعل ملم بأوضاع وطنه ومتطلباته، وفي نفس الآن واع بالتحديات والرهانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
وبذلك، يكون كل من راكم المعارف في ساعات حياته منذ طفولته يتحول مع مرور الأيام إلى منظر في الشؤون الثقافية والمخططات الجيوستراتيجية للقوى العالمية.
التنشئة الديمقراطية في الغرب بمؤسساتها المتعددة والمتنوعة تطمح بشكل رسمي وعلني لتحقيق ادماج كل أفراد المجتمع في فئة الخاصة بدون تمييز. في حين التنشئة العربية ما زالت تقاوم ثقافيا وسياسيا مبدأ المساواة وتساوي الفرص، بحيث ينتج عن منطق بلورتها وتفعيلها فئتين مجتمعيتين بوساطات ضعيفة عاجزة على تعزيز الثقة في أدوارها ووجودها، الأولى يمكن نعتها بالفئة المحظوظة (الزعامات القيادية في السياسة والثقافة والاقتصاد)، والثانية بالتابعة (القطيع) بأفكارها السطحية التي تخضع بسرعة فائقة لخطابات الزعامات السياسية والعقائدية الاستغلالية البعيدة كل البعد عن متطلبات الحاضر والمستقبل.
التراكمات المعرفية التي حققها “خوف” جعلته واعيا بمتطلبات وجوده في بلاده. التمييز واللامساواة في التنشئة أنتجت واقعا معقدا. لم يجد نفسه منجذبا للمؤلفات المحلية وكأنه يناصر التوجه الفكري لعبد الله العروي الذي دافع بالحجج والبراهين عن حاجة المجتمعات العربية لتبني مفهوم “القطيعة المنهجية مع التراث”.
في سياقات تعبيره عن صعوبة تكيفه مع الأوضاع الثقافية السائدة في المملكة العربية السعودية، بقي السارد عازما على التشبث بالأسلوب الغربي وقوة طروحاته وعقله المختلف، والبحث عن آليات التكيف مع واقعه بمنطق الفاعل الطامح لتحقيق غد أفضل لمجتمع انتمائه. في هذا الصدد، أفشى الكاتب حقيقة هامة للغاية حينما قال على نفسه أن له عقل مختلف، لكنه ليس بالضرورة الأذكى. هناك أذكياء كثر من أبناء وطنه، لكن ظروف تنشئتهم وثقافة محيطهم لا تمكنهم من تغيير مسار حياتهم ووعيهم الثقافي. باح بوضوح تام بفشل السياسات العربية في مجال إنتاج أجيال المستقبل.
أخرجته أمه إلى المجتمع بخرافاته وأساطيره. تعجب لامتثالها لضغوطات الأقارب. أصابته علة المعدة التي لم ينفع معها دواء نظرا لطبيعة آلامها التي امتزج فيها القصور البدني بالنفسي. التكيف مع الأوضاع الهشة ثقافيا وماديا صعب ومعقد للغاية. نبوغ عقله المبكر أدخله إلى فترات حياة بمتاعب مضنية. ضَغَط المحيط القريب والبعيد، فأخضعته أمه لبركة الشيخ الذي لا يجيد إلا التمتمة والبصق في وجه المرضى وفي قارورة الزيت بمقابل مادي سخي.
راكم السارد ما يكفي من المعارف لإتقان عمليات تحليل الشخصيات. تعجب لأمه التي جالت العديد من الدول المتقدمة كيف استسلمت للتعاطي للخرافة.
لرسم لوحة قاتمة عن واقع السعوديين في تلك الفترة، قابل الكاتب بين وعيهم الثقافي ومستوى تعليمهم وتكوينهم وظروف عيشهم الهشة (السكن في دور من طين متهالكة). وصف تفاصيل ظروف الاستقبال في مقر الدجال.
قاعة الانتظار مكتظة بالنساء والأطفال، والمدة الزمنية الكافية للوصول إلى الشيخ طويلة. إذا كان النساء الأكثر لجوء للدجالين في الماضي، فقد أصبحوا اليوم يمثلون أكثرية قراء روايات الكاتب الغرائبية. في نفس الآن، لم يترك الكاتب الفرصة تمر بدون التعبير عن ضعف قيم التحضر عند المجتمع السعودي خلال العقود السبع الأولى من القرن العشرين.
لم تجد أمه من وسيلة للوصول إلى الدجال بسرعة سوى تقديم الرشوة للوسيط (VIP). الدولة السعودية موقفها واضح. الدجل يعاقب عليه القانون. توقفت الأم عن زيارة المتمشيخ الدجال، وعندما سألها بطل الرواية (ابنها) عن السبب لم يجد لديها من جواب سوى كون الشرطة قد اعتقلته.
شدد الكاتب عن وجود ارتباط وثيق بين التخلف والخوف، هذا الأخير، كلما ازدادت قساوته، كلما جرد الخائف الضحية من العقل ومن كل وسائل الدفاع عن النفس. إنه السلاح الذي بنى عليه ذلك المشعوذ مشروعه الدجلي، ممكنا إياه من ابتزاز الناس (النساء) في أموالهم بالباطل، وأحيانا في أعراضهم. مجتمعاتنا العربية الإسلامية لا زالت تمجد ثقافيا وفنيا الدجل والتفاهة والخطابات الكاذبة جاعلة منها المصدر الرئيس للاغتناء وتراكم الثروات بدون علم أو جهد.
إنها المعضلات التي تهمش بقساوة وعنف كبيرين الأفكار النيرة ...
مشاهدة علقم النبوغ المبكر شذرات من القراءة النقدية لرواية ldquo خوف rdquo للأديب
يذكر بـأن الموضوع التابع لـ علقم النبوغ المبكر شذرات من القراءة النقدية لرواية خوف للأديب أسامة المسلم قد تم نشرة ومتواجد على العاصفة نيوز وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.
وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، علقم النبوغ المبكر.. شذرات من القراءة النقدية لرواية “خوف” للأديب أسامة المسلم.
في الموقع ايضا :
- تكريمًا لهم: السعودية تقدم معاملة خاصة لفئة محددة من حجاج اليمن في المشاعر المقدسة
- احتمال تساقط أمطار متفرقة.. مركز التنبؤات الجوية والإنذار المبكر تنبه من حالة الطقس في المحافظات اليمنية اليوم الأحد 8 يونيو 2025
- اليمن: مضطرب نفسيًا يهاجم مسجدًا في البيضاء أثناء تكبيرات العيد ويخلف قتلى وجرحى