تبقى معضلة ثيسيوس الأسطوريّة وسؤالها الفلسفي الجدلي هاجسًا يستنطق ذواتنا. إنّها تساؤل حول الهُوية المتغيّرة بمرور الزمان. حيث تُعدّ هذه المعضلة من أكثر الألغاز الفلسفية إثارة للتأمل، وتطرح تجربة فكرية - تُنسب إلى الفيلسوف اليوناني بلوتارخ - تتمثّل في سؤال وجودي مُحيّر: إذا اُستبدلت جميع أجزاء سفينة ثيسيوس تدريجيًا، فهل تظلّ السفينة نفسها أم تصبح شيئًا مُختلفًا؟ ويُضيف إليه هوبز تعقيدًا إضافيًا: إذا جُمِّعت الأجزاء القديمة لبناء سفينة أخرى، فأيّهما تكون سفينة ثيسيوس الحقيقية؟ فهل هذه هي السفينة نفسها التي أبحرت قبل قرون أم أنّها سفينة أخرى؟
والحقُّ أنّ هذه المعضلة لا تقتصر على السفينة فحسب، فالأمر يصبح أكثر تعقيدًا عندما نُسقط المعضلة على ذواتنا، وحينما تمتد لتلامس جوانب عميقة من هويتنا .. فنبدو كسفينة ثيسيوس بين إصلاح أنفسنا من الداخل، وتجدّد خلايا أجسادنا من الخارج؛ حيث إنّ الشخص الذي أنت عليه اليوم لم يعد هو الشخص المادّي نفسه الذي كنت عليه قبل عقدٍ من الزمن، ناهيك عن ذكرياتك التي تبهت وتتلوّن بظلال جديدة مع مرور السنوات، لِتجد نفسك تبحث عن ذاتك الأصلية كما لو أنها أصبحت أثرًا بعد عين.
قال الفيلسوف هيراقليطس ذات مرة: «إنّ التغيير هو القانون الوحيد الثابت». وهذا قانون مُلاحظ نسبيًّا في حياتنا، بَيدَ أنّنا جُبناء إزاءه؛ إذ نخشى أن نفقد جوهرنا إن اعترفنا به.
فعندما يلتقي شخصان فإنهما يبدوان كسفينتين راسيتين في مرفأ واحد قبل أن يبدآ رحلة تبادل الألواح: كلمة تُقلع من فمٍ لتنبت بقايا جذورها في قلب آخر، وعادةً ما تُستعار فتتحول إلى جزءٍ من هُويةٍ أخرى. وبمرور الوقت، قد لا يبقى شيءٌ من السفينة الأولى، لكن ما يربطهما ليست الأخشاب، بل البحر المشترك الذي قرّرا الإبحار فيه معًا.
فهل فقدت العلاقة براءتها وباتت حُطامًا من عهود؟ أم أنّ عُمقها صار أكثر قوةً لأنها بُنيت مرتين: مرة باللقاء، ومرة بالصمود؟
الأمر يُذكرني بكرسيٍّ قديم مهترئ في غرفة والدي، اعتاد أن يُصلح كلَّ عام جزءًا منه، حتى صار أشبه بقطعةٍ من لغز غامض، مع إصرار والدي أنّه الكرسي ذاته، حيثُ لا تعترف ذاكرته بالتغيير. ولذا فلربما صنعت لنا الذكريات أوطانًا موازية نرفض استبدالها.
فهل نشعر بفجوة بين الذات القديمة والذات الجديدة؟ وهل التغيير يُفقدنا أصالتنا أم يُثريها؟ أعتقد أنّ هذا ما يدفعنا للتفكير في ما يُشكِّل جوهرنا: أهو الذكريات والقيم أم الاستمرارية والثبات؟
الجيد في هذا السؤال الجدليّ أنّ الجوهر هنا يتمظهر في قدرتنا على إثارة التفكير؛ حيث إنّ معضلة ثيسيوس لا تستدعي حلاً، كونها تعقيدًا حياتيًّا لا مناص منه، وتذكيرًا بأنّ التغيير جزء من طبيعة الوجود. إذ الأحرى بنا أن نفهم كيف لنا أن نتعامل مع تحوّلات حياتنا. فهي إشارةٌ إلى أننا غير مُلزمين بأن نكون ذات الشيء طوال الرحلة. فربما كنّا أبطال أسطورةٍ نكتبها بأنفسنا كلّما استبدلنا جزءًا منّا، فنخلع شخصيّة لنرتديَ أخرى، لكنّنا نظلّ الحكاية ذاتها.
وفي كلّ مرة يطرأ هذا السؤال المُعضل نتذكّر أن السفينة لا تُعرّف بألواحها، بل بالشواطئ التي رست على أرصفتها، والرحلات التي خاضتها، وعليه فإنّ الهُوية ليست ثابتة، ومن المفترض أن تعتمد القيم على توازن بين التكيّف والحفاظ على الجوهر. لذا يرى بعض الفلاسفة أن استمرارية الوعي والتفكير والمشاعر هي ما يحفظ هويتنا. في حين يقترح علم المعرفة إدراك الهُوية عبر استمرارية الوظيفة، وليس المادة نفسها؛ حيث يتمثّل الجوهر في وظيفة السفينة وهي الإبحار، ومثله لدى الإنسان الذكريات والقيم. وإن كانت الذكريات قد تتلاشى، والقيم قد تتبدّل، ممّا يجعل السؤال أكثر غُموضًا، لكنّه غموضٌ نتعلّم منه أن نتقبّل بعض الأسئلة التي لا نمتلك إجابات نهائية عنها؛ لأنّ الحياة تظلّ سلسلة من التحوّلات التي تتطلب مرونة. وعلى سبيل المثال، فلربما لم يكن النسيان خيانة، بل طريقة لتكوين روابط جديدة، فهو ليس فشلاً في الذاكرة، بل آلية دفاع ذكيّة تحمي العقل من الفوضى.
وما هو مُطمْئن في الأمر أنّنا سنصل إلى الشاطئ ولكن لن نكون أنفسنا مُجددًا، إذ سنُصارع أمواج التغيير وسنُطوّر من ذواتنا وسنكون قادرين على التكيّف والمجابهة مهما بدا وأن تخلّينا عن أشياء كانت ذات يوم جزءًا لا يتجزّأ منّا ومن ممارساتنا ومن مشاعرنا ومن قناعاتنا.. وكأنّنا قادرون دومًا على إعادة ترميم أنفسنا واستبدال عاداتنا ومشاعرنا، وكلّ ذلك بصلابة إصرارنا وصحة اختيارنا، وسنبقى بظني نحن نحن!
مشاهدة ذواتنا ومعضلة ثيسيوس
يذكر بـأن الموضوع التابع لـ ذواتنا ومعضلة ثيسيوس قد تم نشرة ومتواجد على جريدة الرياض وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.
وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، ذواتنا ومعضلة ثيسيوس.
في الموقع ايضا :
- دراسة: الرفات التي عُثر عليها في مقبرة فيرجينا ليست لفيليب الثاني المقدوني
- الصحف المصرية.. النصوص الكاملة لتعديلات قانون الإيجار القديم
- اليوم.. الشيخ عويضة عثمان ضيف برنامج "الدنيا بخير" على قناة الحياة