رام الله… مدينة تعزف على أوتار الصمت ..اخبار محلية

جو 24 - اخبار محلية
رام الله… مدينة تعزف على أوتار الصمت
  رام الله ليست مدينة تُروى، بل مدينة تُفهم بالصمت. ليست قدسية كمدينة القدس، ولا موجعة كالخليل، لكنها تمشي متأرجحةً على حبل رفيع بين الوهم والحقيقة، تتنفس حيرة، وتُتقن النجاة كما يُتقن شاعرٌ عجوز لعبة الإيحاء. رام الله ليست مجرد مكان، بل كأنها سؤالٌ أبدي، يُطرَح منذ قرون ولا يحتاج لإجابة، بل لإصغاء عميق. قبل أن تُصبح رام الله قصيدة تعزفها الثورة على لحن الصبر، كانت مجرّد قرية صغيرة، ولادتها حدثت على تلٍّ عالٍ، في حضن السماء، حين فرت سبع عائلات مسيحية من مدينة الكرك في الأردن، تسبقها صلواتها وتلاحقها سكاكين ظلم الوالي العثماني. قادهم الشيخ راشد الحدادين إلى موضع يظنه الجغرافيون مكانًا، ويظنه المؤمنون معراجًا، وهناك بنوا منازلهم من حَجرٍ وقلبٍ، وغرسوا زيتونًا لا يموت، وسمّوا المكان: رام الله — المرتفع الذي ينام على كتف الله. نمت القرية، لا كما تنمو المدن، بل كما تنمو الفكرة. حجراً فوق حجر، وحُلمًا فوق حُلم، حتى صارت ملاذًا للتجار، ثم منبرًا للمثقفين زمن الانتداب البريطاني، ثم مرآةً للحياة السياسية في الضفة الغربية، حتى جاء يوم عام 1967... حين اخترق صوت الجندي الإسرائيلي أفق المدينة، وانكسرت المرآة. لكنها لم تنكسر تمامًا — بل أعادت تشكيل نفسها شظايا من مقاومة، ولغة، ومسرح، وجداريات. في رام الله، كل شارع له رواية، وكل شرفة تطل على غدٍ مؤجل. ثلاثة أيام أمضيتها في هذه المدينة، لكني لم أقضها دفعةً واحدة. كنت أغادرها صباحًا كمن يبحث عن فصولٍ متفرقة من كتابٍ واحد، أزور القدس، وبيت لحم، والخليل، ثم أعود إليها مع غروب الشمس، وكأنها الفقرة الأخيرة التي تأوي كل المعاني. في رام الله كنت أنام… لكني لا أنام. كان الشباك مفتوحًا على أنفاس المدينة، يدخلني بخار الشاي، ورائحة الخبز من فرنٍ شعبي لا يغلق أبوابه حتى في الليل، وصوت شابٍ يعزف العود في الظلام، كما لو أن المدينة نفسها هي من تعزف من بين أوتاره. في النهار كنت سائحًا في الذاكرة، وفي الليل كنت كاتبًا تتكئ عليه الشوارع لتروي، من ساحة المنارة إلى شارع ركب، من المقاهي التي يحرسها الشعراء بالكلمات، إلى الجدران التي تقاتل الاحتلال بالفرشاة واللون. رأيت كيف تُحاصر رام الله من كل الجهات، لا بالأسلاك فقط، بل بالحواجز والجنود، وبجدارٍ إسمنتيٍّ يفصل الحلم عن البيت، والبيت عن الطريق، والطريق عن الأمل. جدار الفصل العنصري لم يكن مجرد حائط، بل كأنّه حكاية رمادية نُسجت من حجارة الخوف والهيمنة، كأنّه يدٌ ضخمة تخنق خاصرة الضفة الغربية، ثم تضحك. في الصباح، ترى الناس يقفون في طابور الزمن عند الحواجز، وجوههم شاحبة، وعيونهم معلقة على الجنود، كأنهم يطلبون الإذن بالحياة. امرأة تمسك بيد طفلها، وعجوز يضع يده على صدره كأنه يتحسس ما تبقّى من الوطن داخله. كل صباح هو امتحان للكرامة، وكل مساء شهادة على الصبر. ورأيت كيف أن رام الله رغم القيود، تزرع في كل زاوية ذاكرة، وفي كل ركن مقاومة ناعمة، لا تُشبه السلاح، بل تشبه القصيدة. فالمدن التي تُحب الكتب لا تُهزم، حتى وإن قُرئت تحت الرصاص. جلست في مقهى صغير، كأنه كهف من ذاكرةٍ مضيئة، تكتظ جدرانه بصور شهداء يحدّقون في المارة كما لو أنهم يسألونهم: "هل أنتم أوفياء؟"، وبين الصور تتدلى مخطوطات شعرية كأنها تمائم تحرس نبض المدينة من النسيان. سألت النادل عن مكانٍ معين، لكنه لم يُجب فورًا... فجأة، ومن عند الباب، التفت نحوي رجل سبعيني، يبيع الكعك والزعتر، لكنّه بدا كأنه يبيع أكثر من طعام — يبيع ذاكرة وطن ملفوفة في ورقٍ خشن وعطر الزمن. صوته خرج من عمق التاريخ، هشًّا مثل ورقة خريف، لكنه مشحونٌ بطاقة لا تُقاس: "يا أخي... هون، الكل غريب، بس الكل من هون." كان يرتدي معطفًا باهتًا، أثقلته السنوات، لكنّه ارتداه كدرعٍ لجندي لم يتقاعد بعد. عيونه كانت شرفات مفتوحة على النكبات، ووجهه محفور بتجاعيد كأنها خريطة فلسطين، بكل تضاريسها ودموعها. مدّ لي قطعة من الكعك، لكن في تلك اللحظة لم تكن مجرد طعام، بل رمزًا، طقس عبورٍ إلى ما هو أعمق. قال: "بتحبها؟" نظرت إليه، ثم إلى الكعك، ثم إلى رام الله خلفه، وقلت: "أكتر من اللي فهمته." ضحك، لكن ضحكته لم تكن ضحكة، كانت زفرة قرنٍ من الألم الجميل، ثم رفع رأسه نحو السماء كمن يُحدّث الغيب، وقال: "إذا فهمتها… ما بتغادرها، حتى لو مشيت. هي مش بس مدينة... هي وعد، ونار، وحنين، إذا دخلتك... صرت منها، للأبد." في تلك اللحظة شعرت أنني لست زائرًا، بل شاهدًا على أسطورة حيّة، وأن هذا الكهل ليس بائعًا، بل نبيٌّ متعب من سكوت الجبال، يهمس بحكمة الأرض لأذنٍ لا تزال تحاول الفهم. عندها أدركت أن المدن ليست أبنية أو شوارع، بل أرواح، تسكننا أكثر مما نسكنها. في دفتري كتبت: في القدس رأيت وجهي في مرآة الروح، في بيت لحم رأيت الإيمان على هيئة أم، في الخليل رأيت الصبر يمشي حافيًا، أما في رام الله… رأيت الوطن وهو يتنفس رغم كل شيء. رام الله ليست مدينة، بل جرح يرفض أن ينزف تمامًا، وأمل يرفض أن يُشفى، وسؤالٌ أبديّ عن المعنى. رام الله… قصيدة لم تُختم بعد. إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى كل من تصل إليه هذه الكلمات: اعلموا أن رام الله ليست مدينةً تُعاش بالخطى فقط، بل تُفهم بالقلب، وتُحسّ بالصمت. هي ليست من الإسمنت والحجارة وحدها، بل من المعاني، من الجراح التي ترفض أن تنزف، من الأمل الذي يرفض أن يُشفى. فيها تعلّمتُ أن الوطن ليس خريطةً على الجدار، بل إنسانٌ ينتظر عند الحاجز، وطفلٌ يحمل حقيبة أمل، وشاعرٌ يكتب ليقاوم. رام الله علّمتني أن المدن ليست حجارة، بل شرفات من ذاكرة، ونبضٌ من مقاومة، وصوت عود في الظلام. هناك، رأيت كيف يحرس الناس كرامتهم بالكعك والقصائد، وكيف يصير الخبز فعلًا من أفعال الثبات. رأيت أن الاحتلال لا ينتصر على من يقرأ، ولا على من يزرع زيتونةً في حقل الحصار. أوصيكم، أن تحبّوا المدن التي تقرأ، أن تصغوا لصوت العود في الليل، أن تحفظوا الذاكرة من النسيان، وأن تعرفوا أن الوطن قد لا يكون كاملاً… لكنه يسكن في تفاصيل الحياة. إن دخلتكم رام الله، لا تغادروها كغرباء، بل احملوها معكم كقصيدةٍ غير مكتملة، كوصيةٍ محفورة في القلب، كحلمٍ لا يُغادركم، حتى إن غادرتموه. هي ليست مجرد مكان... هي سؤال، وجوابكم هو أن تبقوا أوفياء. كابتن اسامه شقمان . .

التفاصيل من المصدر - اضغط هنا

مشاهدة رام الله hellip مدينة تعزف على أوتار الصمت

يذكر بـأن الموضوع التابع لـ رام الله مدينة تعزف على أوتار الصمت قد تم نشرة ومتواجد على جو 24 وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، رام الله… مدينة تعزف على أوتار الصمت.

في الموقع ايضا :

الاكثر مشاهدة في اخبار محلية


اخر الاخبار