خوسيه موخيكا، وداع "نبي".. قلم : ياسين الطالبي ...المغرب

ازيلال 24 - اخبار عربية
خوسيه موخيكا، وداع نبي.. قلم : ياسين الطالبي
خوسيه موخيكا، وداع "نبي"..

قلم : ياسين الطالبي

“أنا لست فقيرا، الفقير هو من يحتاج إلى الكثير”

لم يكن خوسيه موخيكا نبيا بالمعنى الذي تعرفه الكتب السماوية؛ لكنه مشى بين الناس بروح الأنبياء الذين لا يطلبون لأنفسهم شيئا، ويتركون كل شيء خلفهم حين يعبرون، تاركين لا نصوصا مكتوبة بل أثرا في القلب، ورجفة في الضمير، وحنينا غير مفهوم إلى شيء نادر وغريب اسمه “الصدق”. لم يهبط من جبل، ولم يُسلّم ألواحا من السماء؛ لكنه خرج من سجنٍ طويل كأنما خرج من رحمٍ مؤلمٍ للزمن.. رجلٌ لا يحمل معجزات خارقة؛ بل يحمل في عينيه نظرة فلاحٍ رأى العالم يحترق، فاختار أن يزرع وردة. لم يكن سياسيا يطلب التصفيق؛ بل كان إنسانا يعرف أنه سيُلعن إن خان قلبه، وإن خان الأرض التي يحبها.

لقد عاش كمن رفض أن يتورّط في التفسير، وفضّل أن يكون هو التفسير ذاته. كانت حياته هي الرسالة، لم يشرحها بل عاشها. وعندما سُئل عن “فقره”، ضحك كما يضحك رجل يرى العالم مقلوبا، وقال: “أنا لست فقيرا… الفقير هو من يحتاج إلى الكثير”. كانت الجملة، في بساطتها، أكبر من معظم الكتب الاقتصادية التي سطّرتها الجامعات، وكانت أشبه بسيف ناعم يقطع دون دماء كل نظريات النمو والاستهلاك والسعادة المُعلّبة التي روّج لها الكوكب المنهك من الأكاذيب.

    موخيكا لم يكن مشروع زعيم؛ بل كان مشروع إنسان.. وحين يتجرأ الإنسان أن يكون “إنسانا فقط” في زمن يطالبك فيه الجميع بأن تكون “شيئا ما”، فإنه يصبح استثنائيا دون أن يقصد. رفض الثراء لا لأنه زهد؛ بل لأنه خاف أن يتحوّل إلى عبد. ورفض القصر لا لأنه لا يستحقه؛ بل لأنه يعرف أن الذي يصعد كثيرا ينسى من أين جاء. لقد أحب الحياة كما يجب أن تُحب: ببساطة، بخشوع، بدون امتلاك، وبدون استعراض. وكان يخشى أن يتحوّل الكرسي إلى شرك، والراتب إلى لعنة، واللقب إلى قيد. لذلك، خرج من السلطة نظيفا كما دخلها، كأنها لم تترك فيه إلا زهرة، وربما دمعة. وكان هذا كافيا ليكون نبيا من نوع آخر: نبيا يُحيي الضمير، لا يُقيم المعجزات.

    في زمن صار الناس يعبدون المال، ويتبعون من يمتلك أكثر، جاء موخيكا لا ليدعو إلى دين جديد؛ بل ليذكّرنا بما نسيناه في أعماقنا… أن الاكتفاء ليس فقرا، وأن الكرامة ليست عملة، وأن الزعامة لا تحتاج منصبا؛ بل تحتاج قلبا لا يخون نفسه. وفي موته، كما في حياته، سار خلفه الناس لا ليبكوا زعيما؛ بل ليلمسوا للمرة الأخيرة ظلّ المعنى حين يمرّ بيننا ثم يختفي.

    “القصر يبعدني عن الناس… والكوخ يقربني من قلبي”

    لم يكن الكوخ مجرد سكن عابر ولا ظرفا شخصيا؛ بل كان في جوهره إعلانا وجوديا صامتا، احتجاجا معماريا على ما أصبحت عليه السلطة، ونبشا رمزيا في خرائط المعنى التي رسمها البشر حين صدّقوا أن البذخ يليق بالحاكم، وأن التواضع مكانه في الشعوب فقط. كان كوخ موخيكا في أعين من لا يفهمون مهزلة، وفي أعين من يُحسنون الإصغاء معبدا صغيرا بُني من تراب الحياء ومن خشب الكرامة ومن ضوء يأتي في آخر النهار حين يجلس فلاح متعب مع كلبته ويتقاسمان خبزا وبعض صمت. لم يكن يُريد عزلة؛ بل كان يطلب قربا آخر، قربا من ما تبقّى فيه من بشرية، من طينة لم تجف، من نفسه التي خاف أن تتيبّس إذا تمدّدت فوق رخام بارد.

    ذلك الكوخ لم يكن بيتا فقط… بل كان اختصارا للمعركة. القصر، في عرف كل القياصرة، ليس جدرانا؛ بل منظومة كاملة من الإغراءات، من التهذيب المُنمق للحقيقة، من المسافات التي تُبنى بين القائد والناس حتى لا يعود أحد يعرف وجه الآخر.

    أما الكوخ، فكان عكس كل ذلك، كان مساحة مكشوفة بلا وسائط، بلا بروتوكول، بلا أسرار. كان امتدادا لجلده، لرماد سجائره، لزرعه، لحضوره العاري من المظاهر. وكان بذلك أشبه ما يكون بمأوى الفلاسفة القدماء، الذين لم يطلبوا أن يُصدَّقوا؛ بل أن يُعاش ما قالوه.

    لم يكن الكوخ رمزيا لأنه متواضع؛ بل لأنه كان المكان الوحيد الذي يستطيع فيه موخيكا أن يكون صادقا دون مقاطعة.

    فيه استيقظ كل صباح على صوت الحياة الحقيقية، لا على تصفيق المنافقين، ولا على الأوامر المصطنعة. من نوافذه لم يكن يرى موكبه، بل زرعه؛ ومن ممرّه لم يعبر ضباط الأمن، بل الدجاجات. ومن غباره لم تنبت الخطابات، بل الصمت الذي يُنبت الورود. هناك كان كل شيء متاحا إلا النسيان، لأن الكوخ كان يذكّره بمن كان، قبل أن يخاف عليه الناس من القصور.

    ولو شاء، لبدّل هذا الكوخ في ساعة بقصر من رخام، ولو أراد لجعل نافذته تطلّ على المحيط، لا على الحقول؛ لكنه اختار أن تكون الأرض هي مرآته الوحيدة، لأن البحر يعكس السماء، أما التراب فيعكسك كما أنت. وفي تلك الانعكاسات البسيطة، وفي ظلال الزوايا الخشبية التي كان الضوء يتسلل منها في الصباح الباكر، كان موخيكا يختبر نفسه كل يوم: هل ما زلت الرجل الذي كنت؟ وهل ما زال القلب يسبق اللقب؟ وهل ما زالت الزهرة تسبق القانون؟

    والناس الذين ودّعوه، لم يودّعوا عنوانا رئاسيا؛ بل ودّعوا كوخا في رؤوسهم… كوخا بنوه ذات يوم حين صدّقوا أن الإنسان لا يحتاج أكثر من سقف طيني لكي يشعر بالحرية. وموخيكا كان حارس هذا الكوخ فيهم، ليس لأنه لم يغادره؛ بل لأنه علّمهم أن القصور تسكن الجسد، بينما الأكواخ تسكن الروح.

    “لن أعيش أكثر من زهرة.. لكن لعل زهرتي تُثمر في قلوبكم”

    لم تكن تلك الجنازة مجرد مشهد جنائزي؛ بل كانت لحظة انكشاف نادرة لحقيقة الناس حين يفقدون من لم يكن يشبههم إلا في إنسانيتهم العميقة. لم يُبكِهم الرجل بموته؛ بل بما كشفه غيابه من فراغ لم يكونوا يدركونه وهو بينهم. كانت الدموع التي انهمرت بلا شعارات ولا توجيه، هي نوع من البكاء الذي لا يُذرف على الوجوه بل يُسكب في الداخل، حيث تختلط الحيرة بالعرفان، ويضيع الإنسان في ازدحام الشعور بأنه كان يعيش مع شيء نادر ولم يعرف قيمته إلا حين صمت إلى الأبد.

    مشوا وراءه بلا أوامر، بلا تنظيم، بلا حملة إعلامية تُحرّك العواطف، لأن حب موخيكا لم يكن “توجيها سياسيا”؛ بل استجابة فطرية لصوت قديم في داخلهم ظلّ مكمما في زمن الضجيج.. وها هو الآن يتكلم، لا بالكلمات؛ بل بالخطى المتواضعة التي تبكي وهي تمشي، وبالقلوب التي لا ترفع لافتات، بل تنقبض كأنها فقدت ركنا من أركان وعيها.

    لم يكن الرجل في نعشه؛ بل في ملامحهم، في مزيج غريب من الهدوء والذهول، في الحزن الذي لا يجد عبارة يختبئ فيها. كانت أجسادهم حاضرة؛ لكن أرواحهم كانت تبحث في الهواء عن ظلّه، عن صوته البسيط، عن خطواته الترابية، عن تلك القدرة الخارقة على أن تكون “كاملا دون أن تبدو مهما”، والتي لم يورّثها لهم أحد سواه.

    إن دمعة شعب لا تُذرف على زعيمٍ مستبد، بل على إنسانٍ نادر، هي شهادة حقيقية على ما يعنيه أن تكون صادقا حتى النهاية، دون أن تنتظر خاتمة درامية. لم يصرخوا “يحيا”، ولم يهتفوا باسمه، لأن اسمه لم يكن شعارا بل كان مرآة لأعمق ما فيهم من رغبة مكبوتة في البساطة، في الطمأنينة، في زعامة لا تتكلم بل تعيش.

    ما رأيناه في جنازته لم يكن وداعا، بل خجلا جماعيا نبيلا. خجل من عالمٍ لم يمنحه أكثر مما يستحق، ولم يفهمه كما يجب؛ لكنه في لحظة موته، انكسر أمامه. رأى الناس أنفسهم في نعشه، لا لأنهم يشبهونه؛ بل لأنهم يعرفون أنهم عاجزون عن أن يكونوا مثله. ولعل هذا العجز هو ما جعلهم يبكون بحرقة.. لأنهم فقدوا شخصا عاش كما يتمنون، ومات كما يخافون: صادقا، نظيفا، بعيدا عن كل ما تحوّلوا إليه.

    “ما لا أحتاجه، لا أملكه”

    لم يكن صمت موخيكا فراغا يُملأ، بل كان كثافة تُحترم، ذلك النوع من الصمت الذي لا يأتي من قلة الكلام؛ بل من وفرة الفهم. لم يكن يلوذ بالصمت لأنه خجول؛ بل لأنه يخاف على الحقيقة من أن تذوب في فم الكلمات حين تُقال كثيرا وتُستخدم قليلا. لم يكن خطيبا يعلو المنابر ليطوّع اللغة كما يشاء؛ بل كان رجلا يعرف أن الصمت نفسه قد يكون جملة كاملة، وجسرا بين القلب والفكرة، حين يفيض الشعور ولا يسعفه اللسان.

    في زمنٍ صارت فيه السياسة بازارا للضجيج، وارتفعت الأصوات لتُخفي غياب القيم، اختار موخيكا أن يتوارى عن مهرجان البلاغة، لا ليهرب؛ بل ليقاوم. كان صمته قتالا هادئا ضد تلوّث اللغة، ضد الكلمات التي تُستعمل كأقنعة، ضد التصريحات التي تسيل بلا أثر، وتُقال فقط لتُقال. لم يكن يتفنن في حبك الجمل؛ بل كان يختصر الجبل في حجر، والمجلد في نظرة، والجمهورية في كلب وفي مزهرية.

    إن الرجل الذي يرفض أن يقول أكثر مما يعيش هو أعنف تهديد للنظام الخطابي الذي يحكم العالم. موخيكا، حين صمت، لم يُفرّغ الساحة لخصومه؛ بل انتزع منهم شرعيتهم دون أن يدخل معهم في جدل. كان حضوره في الغياب، وصوته في التجاهل، وكأنه فهم منذ البداية أن العالم فقد أذنه قبل أن يفقد قلبه، وأن الكلام لمن لا يسمع، يصبح مشاركة في الضجيج.

    لا أحد يستطيع أن يُعلّم الناس الصمت؛ لكنهم يشعرون به حين يُصبح طاهرا. ولذلك، كان من يراه في جلسة رسمية، أو مؤتمر صحافي، أو حتى في مقهى شعبي، يدرك أن الرجل لا يسكت لأن لا رأي له؛ بل لأنه يريد أن يحفظ طهارة المعنى من ابتذال التكرار. كان صمته لا يُحرج أحدا؛ لكنه يضع الكل في مواجهة أنفسهم، كأنك حين تجلس إلى جانبه تدرك أن كل ما كنت تقوله عن الحياة كان كثيرا وغير ضروري.

    وها هو الآن، بعد موته، لا يُستعاد بكلماته، بل بصمته. لا يُلخّص في مقولات محفوظة؛ بل في تلك المساحات التي تركها خالية عامدا، حتى لا تُملأ بزيف لا يشبهه. الذين يعرفونه حقا لا يستشهدون بجمله؛ بل يضعون رؤوسهم بين أيديهم ويصمتون كما صمت، لأنهم يعلمون أن الحزن الحقيقي لا يُصرَّح به، والاحترام لا يُجهر به، والفقد لا يُبكى عليه، بل يُسكن في الداخل، ويصير هو ذاته اللغة الجديدة التي تركها خلفه… دون أن ينطق بها.

    “العالم اختنق بكثرة الأشياء، وافتقر إلى قلب بسيط”

    لم يكن موخيكا صوتا محليا خرج من تربة الأوروغواي فقط؛ بل كان همسا كونيا صدر عن أعماق حضارة تُعاني من التخمة، لكنها لا تزال جائعة، حضارة تأكل أكثر مما تحتاج، وتنتج أكثر مما تحتمل، وتستهلك حتى فكرة السعادة إلى أن تتحوّل إلى واجب ثقيل لا إلى شعور. وفي هذا المشهد العالمي الذي استوى فيه الطغاة والمسوّقون، والدعاة والمحلّلون، وقف موخيكا كشاهدٍ صامت على مرضٍ جماعيٍ لا يبحث عن دواء؛ بل عن مبرر.

    لقد ظهر في عالمٍ يُعاني من الوفرة، وفرة المال والمعلومة والخطاب؛ لكنه يفتقر إلى تلك الندرة القديمة: الحكمة. لم يكن واعظا، ولا صاحب مذهب؛ لكنه أدرك ببصيرة المجرّب أن العالم لا يسير نحو الكارثة لأن الناس أشرار، بل لأنهم لم يعودوا يعرفون كيف يتوقفون. الكارثة ليست في القنابل، بل في العادة؛ ليست في العنف، بل في الإدمان على الكثرة. وموخيكا، بهذا الإدراك العميق، لم يقترح خطة، بل جسّد بديلا حيّا: إنسانا يملك أن يُكثر، ويختار أن يُقلل؛ يقدر أن يأمر، ويفضّل أن يقترح.

    لم يكن رجل اقتصاد، لكنه كان يعري المفارقة الكبرى: أن الإنسانية، كلما تقدّمت رقميا تراجعت شعوريا، وكلما علت مدنها الزجاجية هوت أرواحها إلى هوّة الصمت القاسي. كان يرى أن العالم الحديث لا يحتاج إلى اختراعات إضافية؛ بل إلى تفكيك هندسة الخداع، إلى من يقول للعالم: أنتم لا تعيشون، بل تُدارون كآلات صُمّمت لتشتري وتنتج وتستهلك وتُستنزف، ثم تُرمى.

    في كل كلمة قالها، حتى لو جاءت عابرة، كان هناك توقٌ إلى الفطرة، إلى إنسان لم يفسده الطموح، ولم تشوهه الإنجازات، إنسان لا يقيس وجوده بما يملك، بل بما يمكنه أن يتخلى عنه دون أن يفقد نفسه. وهذه الدعوة – الصامتة غالبا – لم يكن هدفها الإصلاح، بل التذكير بأن العالم ليس مضطرا إلى الجنون كي يستمر، وأن البساطة ليست انحدارا في مستوى المعيشة، بل ارتقاءٌ في مستوى الإدراك.

    وحين خاطب العالم، لم يكن يُسائل السياسات بل يسائل النفوس: من أنتم؟ لماذا كل هذا؟ أين تذهبون؟ كان كمن يضع حضارة كاملة أمام مرآة صغيرة، تكشف في تواضعها هشاشة العظمة، وتفضح في صغر حجمها مدى ابتعادنا عن أنفسنا. ولأنه كان يعلم أن العالم يزداد صمما كلما ازداد صخبا، لم يصرخ. فقط بقي هناك، في هدوئه، كأنما يُعلّم الكوكب كيف ينهض من فراش مرضه الطويل لا بالأدوية، بل بالتقشف في العبث، وبالرجوع إلى نُبل أول المعاني.

    “إذا صار اسمي ماركة… فقد فشلت”

    لم تكن وصية موخيكا مكتوبة على ورق، ولم تُقرأ أمام جمهور دامع، ولم تُحفظ في درج أو تُسلَّم لمحامٍ. لقد كانت، على خلاف كل الوصايا، متروكة في الهواء، عائمة بين تفاصيل عاديته، مُخبأة في فنجان قهوة يشربه في صمت، في بذرة يدفنها بيده، في حذاء قديم لا يغيّره لأن فيه مسار خطواته. لم يقل يوما: “افعلوا كذا بعدي”، لأنه كان يعرف أن الوصايا لا تصنع التغيير، بل تُخلّده الأفعال الصادقة حين تُمارس دون ضجيج.

    لقد فهم مبكرا أن أكثر ما يُفسد الإنسان بعد موته، هو أن يُستعمل. أن يُمسك البعض بصورته، ويحوّلوه إلى شعار، أو تمثال، أو ملصق يُباع في المتاجر الفارغة من المعنى. وكان يرى، بعين من عاش دون درع، أن الخطر ليس في الموت ذاته، بل في أن يُجرّد الإنسان من صدقه ليُعاد تدويره في سوق الرموز. ولذلك قالها واضحة، جارحة، مستبقة لكل محاولات التسليع: “إذا صار اسمي ماركة… فقد فشلت”.

    إن الرجل الذي خاف أن يتحوّل اسمه إلى سلعة، هو نفسه الذي قضى عمره وهو يكسر القوالب الجاهزة، ويُراوغ التصنيفات التي يحبها الإعلام. لم يكن نبيا لكي يُعبد، ولا زاهدا لكي يُقدّس، ولا فوضويا لكي يُخاف. بل كان شيئا أعقد من ذلك… كائنا لا يريد أن يُمسك، ولا أن يُفسّر، بل أن يُعاش في صيغته الأكثر نقاء: الصدق.

    ولذلك، كانت وصيته، من حيث لم يُعلنها، نوعا من التحذير: لا تجعلوني بطلكم لأخفي عنكم عجزكم، لا ترفعوا صورتي لتدفنوا خيانتكم لأنفسكم، لا تهتفوا باسمي لتُسكتوا صوت الندم في داخلكم. أنا لم أكن أكثر من محاولة جادة لأن أعيش كما يجب… فإن أحببتموني، لا تقتبسوا كلامي، بل تخلّوا عن أشياءكم كما تخلّيت، وامشوا خفافا كما مشيت، وكونوا منسجمين مع ضميركم كما سعيت.

    لقد عرف أن الخلود الحقيقي لا يُكتب في تمثال، بل يُزرع في الطين. وأن من يحبّه حقا لن يزور قبره، بل سيتذكّره حين يُغلق بابا كان يجب أن يُفتَح، أو يفتح نافذة كان يجب أن تُغلق. وصيته لم تكن قاعدة، بل أثرا حيا، خيطا رفيعا يمرّ بين التفاصيل ويهمس لكل من تسرّب منه الإنسان في زحمة الحياة: ما زال يمكن أن تعيش دون أن تكذب، أن تقود دون أن تتعالى، أن تموت دون أن تكون قد خنت ذاتك.

    حين تمرّ الروح من هنا ولا تغادر

    ليس الوداع نهاية، بل انتقال الضوء من جهة إلى جهة… من الجسد إلى الأثر، من الخطوة إلى الصدى، من الملامح إلى الذكرى التي لا تشيخ. موخيكا لم يذهب… بل تسرّب، كما تتسرّب الرطوبة في جدران القلب الذي لم يعد يعرف كيف يحب من لا يُشبهه. تركنا دون أن يرفع يده مودّعا، لأنه يعلم أن الوداع حركة زائدة في حياة مَن عاش خفيفا، ومات واضحا، كأن موته لم يكن سوى عودة إلى الصمت الذي انبثق منه ذات يوم.

    لقد حاول العالم، بكل فوضاه المدروسة، أن يجعل منا كائنات تستهلك وتُنافس وتُراكم وتبرّر، وجاء هو – وحده تقريبا – ليقول لا بصوت منخفض:

    “يمكنك أن تعيش دون أن تفسد”.

    “يمكنك أن تحكم دون أن تَصعد”.

    “يمكنك أن تمشي حافيا على أرض الكرامة دون أن تبيع نفسك مقابل سقف مرتفع”.

    لم يكن قديسا؛ لكنه اقترب من مقام النقاء حتى خاف أن يَفسده الثناء.

    لم يكن نبيا، لكنه بلغ من الصدق ما جعل الصمت حوله يشبه الوحي الذي نسي العالم كيف يُصغي إليه.

    هذه ليست نهاية سيرة رجل… بل بداية شكّ في كل ما كنّا نظنه طبيعيا:

    أن السلطة تحتاج استعراضا،

    أن الفقر عجز،

    أن الزعيم لا يكون إلا مهابا…

    كل هذه المسلّمات انهارت بهدوء حين جلس رجل في كوخ مائل، وأشعل سيجارة، وسقى نبتة، وقال للعالم المزدحم:

    “أنا لست فقيرا… أنتم من تحتاجون إلى كل شيء كي تشعروا أنكم موجودون”.

    وها نحن، بعد أن مشى إلى ظله، نبكي لا لأنه مات، بل لأننا خسرنا مرآة نادرة، لم تكن تُظهر وجوهنا، بل تُظهر ما كنّا نخجل أن نراه في داخلنا.

    فنم أيها العابر الجميل،

    فما زالت زهرتك تنبت في الزوايا،

    وما زالت كلبتك مانويلا تمشي بيننا دون أن ندري،

    وما زال الكوخ، هناك في آخر الطريق، ينتظر أن ندخله، لا كضيوف… بل كأبناء ضيّعتهم القصور.

    التفاصيل من المصدر - اضغط هنا

    Apple Storegoogle play

    مشاهدة خوسيه موخيكا وداع نبي قلم ياسين الطالبي

    يذكر بـأن الموضوع التابع لـ خوسيه موخيكا وداع نبي قلم ياسين الطالبي قد تم نشرة ومتواجد على ازيلال 24 وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

    وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، خوسيه موخيكا، وداع "نبي".. قلم : ياسين الطالبي.

    في الموقع ايضا :

    الاكثر مشاهدة في اخبار عربية


    اخر الاخبار