ذاكرة انتفاضة دمنات 1984 : المناضل التقدمي عبد الجليل أبوالزهور يوثق لحظة الغضب الشعبي ...المغرب

اخبار عربية بواسطة : (ازيلال 24) -

ذاكرة انتفاضة دمنات 1984 : المناضل التقدمي عبد الجليل أبوالزهور يوثق لحظة الغضب الشعبي" 

 

قلم : عبد المجيد ابو الزهور 

في هذه السلسلة من الشهادات الحية، يعود بنا المناضل التقدمي عبد الجليل أبو الزهور إلى واحدة من أكثر اللحظات توتراً في تاريخ النضال الشعبي بالمغرب، وتحديداً إلى انتفاضة يناير 1984 التي اجتاحت مدينة دمنات، كما العديد من المدن المغربية الأخرى. من خلال هذه الرواية الشخصية، لا نستعيد فقط تفاصيل دقيقة عن الأحداث، وإنما نسترجع كذلك روح المقاومة التي حملها جيل آمن بعدالة قضيته، رغم القمع والاعتقالات. من حي “اغير” إلى “آيت أكنون”، ومن بين الحقول المظلمة إلى غرف الطلبة بمراكش، نتابع مسار شاب شكلته تجربة الالتزام السياسي في حضن حزب التقدم والاشتراكية، وجعلت منه شاهداً لا فقط على القمع، بل على الأمل الذي لا ينكسر. هذه الشهادة ليست فقط توثيقاً للتاريخ، بل دعوة للتأمل في مسارات النضال، وفي ثمن الحرية الذي دفعه من سبقونا

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة 1

 

 بقلم : عبد المجيد أبو الزهور

أحداث يناير 1984 بدمنات

في شهر يناير من سنة 1984، شهدت مدينة دمنات، موجة احتجاجات قوية قادها تلاميذ الثانوية التأهيلية، كما العديد من المدن المغربية. كانت الشرارة الأولى لهذه المظاهرات ما قيل إنه “إصلاحات” في قطاع التعليم، إلى جانب الغلاء الفاحش في المعيشة الذي أرهق كاهل الأسر المغربية. في دمنات، ساهمت التصرفات الاستفزازية للقائد “مبارك” – ممثل السلطة المحلية – وتهديداته المباشرة داخل المؤسسة التعليمية في تأجيج غضب التلاميذ، مما دفعهم إلى مغادرة الثانوية والخروج إلى الشارع. وأثناء مسيرتهم، قاموا بإخراج تلاميذ المدرسة المركزية الابتدائية، ثم تلاميذ الثانوية الإعدادية حمان الفطواكي، فتوسعت رقعة الاحتجاجات بشكل سريع. وهو شيء لن يكن في الحسبان ولم تتم مناقشته في اجتماع ضم مجموعة من تلاميذ الثانوية التأهيلية عقد بداية بمنزل التجاني المجداوي بحي اغير قبل أن نغير المكان نظرا لشك في كون شخص قيل بأنه مشبوه ترصدنا عند التحاقنا بالمنزل المذكور. واتممنا الاجتماع تحت شجرة كرم قرب احد العيون باغير ترسال. التحق بالحراك شباب من خارج المؤسسات التعليمية، منهم من كانوا قد غادروا مقاعد الدراسة قسراً، وآخرون من الحرفيين والعاطلين. حاولت السلطات احتواء الوضع، لكنها فشلت، خاصة بعد صدور أوامر باستخدام القوة من طرف القوات المساعدة والدرك الملكي، مما زاد من حدة المواجهات. تصاعد التوتر، وبدأ المحتجون برشق عدد من المؤسسات العمومية وشبه العمومية بالحجارة. مع حلول الظلام، بدأت حملة اعتقالات قادها رجال الدرك، مرفوقين ببعض الشيوخ، حيث تم اقتحام بيوت التلاميذ واعتقال العديد منهم. كان من أوائل المعتقلين: مولاي عمر الحرائري، رشيد بنعمرو، رشيد البوبكراوي، عبد اللطيف عبدو، والبحري. والتجاني المجداوي ومصطفى العيادي ومصطفى الفلافلي ، وبعد يومين، تم اعتقال محمد لويس وآخرين لا أستحضر أسماءهم بدقة. منهم من كان بالقسم الداخلي للثانوية قضيتُ يومين مختبئاً، أتنقل بين الحقول في النهار وأقضي الليل عند أسرة من جيراننا بحي الفلاح، قبل أن أتنقل إلى حي آيت أكنون. في اليوم الثالث، قررت مغادرة دمنات متجهاً إلى مراكش، حيث كنت أتابع دراستي الجامعية. طيلة الأسبوع التالي، تجنبت الذهاب إلى الكلية خوفاً من أن تطالني حملة الاعتقالات التي طالت بعض الطلبة والطالبات. كنت ألتزم غرفتي في المنزل الذي يكتريه صديقاي عبد الكريم المكاوي ومحمد بادو – رحمه الله رفقة الاخوين الحروني الحبيب والعلمي.بالقرب من مارشي الزاهرية الوحدة الثانية الداوديات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة 2

 بقلم : عبد المجيد أبو الزهور

قضيت أسبوعًا كاملًا لم أقترب فيه من الكلية. كل صباح، كنت أستيقظ وأتوجه إلى حي كيليز، حيث أقضي اليوم مع عبد الرحمان تيشنا رحمه الله، وهو أحد أبناء دمنات وكان يشتغل بمكتب الحوز قبل أن يُطرد بسبب “عدم الانضباط” وتغيبه الشبه الدائم . كان برنامجنا اليومي في تلك الأيام بسيطًا وفوضويًا: التسكع نهارًا، وعند المغيب ندخل إحدى “الحانات” لنعاقر البيرة، ثم نتناول العشاء في أحد المطاعم، قبل أن ننهي ليلتنا في الأندية الليلية، حيث نقضي ثلثي الليل في تناول الكحول، والتدخين، والسهر حتى التعب.

في مساء ٱخر أربعاء، بشهر يناير 1984، قررت أخيرًا العودة إلى الكلية وحضور إحدى الحصص المقررة على الساعة الرابعة زوالًا. ما إن وصلت باب الكلية حتى أوقفني رجال الحرس الجامعي، الذين كنا نلقبهم بـ”الأواكس”، وطلبوا مني بطاقة الطالب. قدمتها لهم، وبعد التأكد من اسمي أجروا اتصالاتهم مع الأجهزة الأمنية.

دخلت المدرج وأنا أشعر بأن أمرًا ما سيقع. لاحظت أن رجال الحرس يحيطون بالمداخل، وكأنهم يترصدونني. خلال الاستراحة، اقترب مني ثلاثة من زملائي المنحدرين من دمنات: سعيد فايفرو، عبد الصادق احكور، وسعيد أهوار. خاطبني سعيد قائلاً: “ظننت أنك اعتُقلت، خاصة وأنك لم تظهر في الكلية منذ مدة.” ابتسمت وأجبته بأن الاعتقال قد يكون وشيكًا جدًا. وربما تحت انظاركم .

ودعتهم وتوجهت نحو الباب الرئيسي، ولم يُمهلني رجال الحرس الذين كانوا قد وضعوا خطة منذ لحظة دخولي. تقدم نحوي اثنان منهم، ومن خلفي آخرون، طلبوا مني مجددًا بطاقة الطالب وأمروني بمرافقتهم إلى مكتب رئيس مصلحة الشؤون الطلابية، حيث وجدت رجلاً طويلًا، أسمر البشرة، يُدعى “العلوي”، يعمل في جهاز مراقبة التراب الوطني ( د.س .ت )، ثم أشار إلي بالجلوس.

بعد دقائق، دخل عدد من رجال الشرطة. أخرجوني من الباب الخلفي للكلية – وهو نفسه الذي يستخدمه العميد – وأركبوني في سيارة “لاندروفير”. ما إن تحركت السيارة حتى أمرني أحدهم بوضع يديّ خلف ظهري وصفّدني. ومن خلال نافذة السيارة، لمحت الطالبة فواز ٱمنة همست لزميلتها زهرة الكنبوري بما رمقت عيناها، وكانتا واقفتين قرب الساحة المقابلة لباب الكلية.

قادوني إلى الكوميسارية المركزية بجامع الفنا. عند دخولي، واجهني رجل بدين، وما إن سمع اسمي حتى صفعني صفعة أفقدتني توازني ودوّت في أذني. قال لي بعنف: “غادي نصفتك عند الناس لي برزطي ليهم بلادهم.” فهمت حينها أن الأمر يتعلق باحتجاجات دمنات.

بعد نصف ساعة من الانتظار، سألوني عن مقر إقامتي في مراكش. أجبته بأنني لا أملك إقامة قارة. فعاد الرجل البدين وصفعني مجددًا. قلت له إنني أقيم أحيانًا مع طلبة من دمنات بحي الداوديات قرب “مارشي الزاهرية”. فاقتادوني إلى هناك في نفس سيارة “لاندروفير”، تتقدمها سيارة “رونو 4” تقل رجال شرطة.

عند وصولنا إلى البيت، فتح عبد الكريم المكاوي الباب. دخلوا وفتشوا الغرف، وقلّبوا محفظتي، فلم يجدوا سوى ملابسي وبعض الدفاتر وكتاب “مناهج الدراسات الأدبية”. أعادوني إلى المخفر وقضيت الليلة هناك، رفقة طالب آخر اعتُقل بدوره، من جهة ورزازات، وكان يظهر من مظهره وتكرار دعائه أنه ينتمي إلى أحد التيارات الإسلامية.

من حين لآخر، كان يدخل علينا شرطي طيب القلب. أرسل أحدهم ليحضر لنا خبزًا وصحن فاصوليا وعلبة سجائر، بعد أن سألني إن كنت أدخن. حاول رفع معنوياتنا، وقال لنا: “لن يقع إلا ما كتبه الله لكم.”

في اليوم الموالي، قرابة العاشرة صباحًا، حضر شخص أنيق، وبدأ في استجوابي: اسمي، عمري، اسم والدي، أين درست، وكل تفاصيل حياتي التعليمية. ثم سألني: “هل لك علاقة بإحدى الطالبات؟” أجبته بالنفي، فقال لي ساخرًا: “غادي نرسل لك وحدة مستقبلاً تجيب لي كل شي من تحت راسك.”

بعد انتهائه، أخذني إلى سطح الكوميسارية، وسلمني لوحة كتب عليها اسمي، ثم التقط صورًا لي من الأمام والجانبين، بينما كانت أصوات ساحة جامع الفنا تعج بالحياة في الخلف

قضيت بقية اليوم والليلة التالية على كرسي خشبي في نفس القاعة. وفي اليوم الثالث، جاء شخصان وتسلماني بعد توقيع بعض الأوراق، ألبسني أحدهما سلهامه حتى لا يلاحظ الفضوليين من المارة ذلك ، ثم اقتادوني مشيًا لعدة أمتار قبل أن يستوقفوا سيارة أجرة صغيرة. انطلقنا إلى المحطة الطرقية بباب دكالة، حيث أدخلوني إلى المخفر هناك، وبقيت حتى موعد انطلاق الحافلة المتجهة إلى بني ملال طيلة الطريق وانا اخمن واطرح مختلف السيناريوهات وفكرت في والدي اذا علم بالامر خاصة وأنه مريض ولن يستحمل سماع خبر توقيفي .الشرطيان المرافقان غطيا في نوم عميق .

عند الوصول إلى بني ملال، في مغيب الشمس سلّماني رجال الأمن المرافقين إلى شرطي بالكوميسارية المركزية، بعد توقيع أوراق التسليم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة 3

احدث يناير 1984 بدمنات “حفلة العذاب… واستحضار الألم القديم”

 بقلم : عبد المجيد أبو الزهور

قبل أن يُنزلوني مما يسمونه في قاموسهم بـ”الطيارة”، ذلك الوضع المهين من التعذيب، سمعت، كبيرهم، يهمس لبقية الجلادين:

“أنزلوه، أنا سأجعله يعترف، سأضمن لكم ذلك.” كأننا في مشهد من مسرحية رديئة الإخراج، حيث يُعاد تدوير مشاهد الإذلال بأدوار ثابتة وممثلين بلا ضمير. في لحظة الصعق، وفي ذروة الألم، لم أرَ فقط الشرر المتطاير من الأسلاك، بل ارتسمت أمام عيني ذكرى قديمة، لم تغادرني رغم مرور السنين. كنت حينها تلميذًا في السنة الخامسة ابتدائي. كنت أتهرب من المدرسة رفقة زملاء الطفولة: عبد اللطيف تاكدايت (براما)، تباصا محمد رحمه الله، ومولاي مصطفى الحرار رحمه الله. ولما علمت أمي بالأمر، قررت أن تُعلّمني الدرس بطريقتها الخاصة. بعد الغداء ومغادرة والدي إلى عمله، أغلقت الباب بإحكام، وربطتني إلى سارية خشبية وسط المنزل. أوقدت المجمر، وطلبت من أختي النفخ حتى تحمرّ السفافيد الحديدية، ثم شرعت تكيّ رجلي وبطني، وهي تردد:

“ها الرّجلين اللي ما بغاو يمشيو للمدرسة ها لي مغى يقرا .”

كان الألم وقتها جسديًا فقط، لكني أحسست بأنه شكل من أشكال الحب الصارم… أما الآن، فالعذاب بلا معنى، بلا رحمة، بلا أفق.

اعادوني إلى الواقع حين أنزلوني. لم يرفعوا الغمامة بعد، ولم يفكوا الحبال، حتى دخل أحدهم بصوت متصنّع يقول:

“من قال لكم أن تنزلوه؟ هل اعترف بكل شيء؟”

رد الجلاد الذي كان واقفًا بجانبي:

“الحاج هو من قال لنا ذلك. قال إنه ضامن بأنه سيعترف.”

صرخ:

“لا… لا… أنا أعرف هذا النوع، إنه من الكاموني، لا تخرج رائحته إلا بعد أن يُدق جيدًا!” فيما بينهم، لا ينادون بعضهم إلا بلقب “الحاج”. لكنهم ليسوا حجّاج بيت الله، بل حجّاج بيت الله العذاب.

بعد أن تبادلوا نظرات خفية، نزعوا العصابة عن عيني وفكوا قيودي. شعرت بمفاصلي تتمزق، وسرى في جسدي ألم يشبه زحف آلاف النمل.

عاد “الحاج الأكبر” ليستجوبني من جديد، بنفس الأسئلة، بنفس الأسماء:

“أعطني الحقيقة، وإلا…”

قلت له:

“أخبرتكم بكل ما لدي.”

ردّ بغلظة:

“ستُخرج كل ما في جعبتك، سنرى من سيتعب أولاً!”

انهال عليّ بالسب والشتم في الأعراض، ثم رموني في الزنزانة مجددًا، جسدي منهك، ظهري يحترق، أمشي بصعوبة.

اقترب مني أحد الرفاق داخل الزنزانة وقال:

“ركّبوك الطيّارة أولاد القحبة؟ ياكم، مادارو ليك الجفاف والبانيو؟

هززت رأسي:

“لا.”

ردّ:

“محظوظ.”

لكني كنت أفكر أن القادم ربما أسوأ… إلا أن صورة والدتي، وهي تكيّني، منحتني بعض الصلابة والصبر.

قضيت الليلة التالية بين غفوات متقطعة وألم لا يُحتمل.

“الوجوه القادمة… والتحرك في الخفاء

في صباح اليوم الموالي، أطللت من فتحة الزنزانة. رأيت أخي محمد جالسًا على كرسي خشبي. إلى جانبه كان الرفيق محمد المرابط من بني ملال، وعلى كرسي آخر زوجته ثريا تناني.

كما شاهدت رجلاً أنيقًا، طويل القامة، يتنقل جيئة وذهابًا. ظننته شرطيًا في البداية، لكنه كان عمر منير، جاء شقيقي محمد رفقة اخونا الاكبر عمر إلى بني ملال بعد علمهما باعتقالي.

أما والدتي، فلم تتأخر؛ وصلت إلى بني ملال فورًا، واتصلت بجارنا بحي الفلاح صاحب حافلة النقل الرابطة دمنات ببني ملال عبر أزيلال سي احماد مقدام، الذي لم يتردد في التحرك. اتصل بأحد الشرطة، وأرسل لي ما استطاع من طعام، سجائر، وأغطية.

لكن المفاجأة أن نفس الشرطي أخبر والدتي أنهم سينتقلون إلى دمنات لتفتيش منزلنا.

في سباق مع الزمن، استقلت والدتي سيارة أجرة أرسلها سي احماد، ووصلت قبلهم، وجمعت كل ما يُمكن أن يكون إدانة:

الأدبيات الماركسية اللينينية التي تميزهم والدتي ( باغلفتها الحمراء)

أشرطة أغاني الشيخ إمام، مارسيل خليفة

قصائد محمود درويش

وقد سلمتها للرفيق الحسين وابير. من اجل اخفائها

في اليوم التالي، احضرو إلى الزنزانة الرفيق ادار أيت مسعود وشقيقه عبد الغني (رحمه الله)، ثم الشقيقين حيرت من أزيلال.

وبعد منتصف الليل، دخل علينا رجل مسن، علمت لاحقًا أنه الأخ احربيل من أيت ماجطن، كما أحضروا شقيقه من الدار البيضاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة 4

أحداث يناير 1984 بدمنات تابع – التحقيق ومحاولة تلفيق التهم.

 بقلم : عبد المجيد أبو الزهور

بعد يوم من الترقب والتفكير وتخمين السيناريوهات لما يمكن أن ينتهي به هذا الجحيم، زارنا كومندو من الشرطة الذين تنقلوا إلى دمنات وقاموا بتفتيش منزلنا بحضور القائد «مبارك» السيء الذكر. حسب ما روته لي والدتي، رحمه الله، فقد فتشوا البيت والكتب وأخذوا معهم كتابين وبعض الأوراق. تبين لي لاحقًا أنهم أخذوا رواية La Danse du Tof للكاتب الجزائري محمد ديب، وكتاب الأقدام العارية من أدب السجون، الذي يحكي فيه الكاتب ما قاساه المعتقلون الشيوعيون على يد نظام جمال عبد الناصر في مصر، بالإضافة إلى عددين من مجلة Historia. أما الأوراق، فكانت محاضرة في المنهج، احتفظ بها القائد لنفسه في عملية لا توصف إلا بالسرقة، إذ لا علاقة لها بالسياسة.

كان ذلك يومًا عصيبًا من الانتظار والقلق. هل سيتم إطلاق سراحي مع أخي الذي ترك النشاط السياسي منذ أن التحق بسلك التعليم؟ وماذا عن باقي الرفاق ممن تقاسمنا معهم لحظات العذاب والإذلال؟ كنا نتدبر أمرنا لقضاء الحاجات البيولوجية كالأغنام في زريبة: مرحاض وحيد بدون باب، نقضي حاجاتنا ونرفع سراويلنا دون غسل، والماء نفسه متحكم فيه من الأعلى.

قبل الغروب، عاد الألم ليعصر أمعائي، إنه وجع الخوف. نودي علي وتم اقتيادي إلى الطابق العلوي. طُرِقَ بابٌ مغلف بالجلد، فتحه الشرطي دون انتظار إذن ودفعني إلى الداخل. وجدت نفسي في مكتب فسيح مرتب بدقة، يجلس خلف طاولة ضخمة رجل أنيق بوجه يحمل آثار النعمة، يرتدي قميصًا ناصع البياض وربطة عنق. على يساره جلس شرطي أعرفه من جلسة الصعق بالكهرباء صباح ذلك اليوم، وبجواره كرسي شاغر مخصص لضيوف مثلي. وعلى الجانب المقابل رجل متوسط القامة يرتدي معطفًا بنيًا وربطة عنق زرقاء.

بدأ الرجل الجالس خلف الطاولة يطرح أسئلة عن حياتي منذ الولادة، اسم والدي وعمله، عدد إخوتي وأخواتي، دراستي الابتدائية، الإعدادية، الثانوية، والجامعية، وأين وكم قضيت في كل مرحلة. ثم انتقل إلى الحديث عن بداية الأسبوع الثاني من يناير، عندما خرج التلاميذ في احتجاجات بدمنات وتعرضت الممتلكات العامة للتخريب

“أين اجتمعتم للتخطيط للتظاهر؟” سألني بنبرة تحمل نية الإيقاع بي.

“لا علم لي بأي اجتماع.” “مستحيل. حسب معلوماتنا الخاصة، كنت من المحرضين.” “غير صحيح. لم أحرض أحدًا، ولم أشارك في أي اجتماع.” ثم سألني: “هل تعرف شخصًا يدعى لويس؟” “نعم، تلميذ بثانوية دمنات، منحدر من آيت ماجطن، ومقيم بدار الطالب.”

“كيف تفسر تعتره الدراسي؟” “ربما لأنه كان يهتم بكرة القدم أكثر من الدراسة.” ثم عاد ليسأل: “من كان معكم ذلك اليوم إلى جانب لويس؟” “أي يوم؟ وأين؟” “أنا من يسأل هنا.” “أنا ببساطة لا أعرف عن أي يوم ولا أي مكان تتحدث.” قال: “لويس أخبرنا أنك من الاتحاد الاشتراكي.” “لا، أنا من حزب التقدم والاشتراكية منذ 1981، سنة التحاقي بالجامعة.” “وكيف تجتمع مع لويس الذي ينتمي لحزب آخر؟” “لم أجتمع به في أي تنظيم، ولا علم لي بانتمائه السياسي.” واصل استجوابه: “من هم أعضاء المكتب السياسي لحزبك؟” ذكرت له: “علي يعتة، شعيب الريفي، عبد السلام بورقية، عبد الله العياشي، عبد الواحد سهيل، أمينة المريني، نزهة الصقلي، شمعون ليفي، إسماعيل العلوي، رحال الزكراوي، عبد المجيد الذويب، خالد الناصري، محمد سالم لطلفي.” سأل: “ما موقف حزبك من قضية الصحراء؟”

“نعتبر أن الصحراء جزء من التراب الوطني، واستعمرتها إسبانيا، والدفاع عنها من أولوياتنا.”

“ومسألة تقرير المصير؟”

“مصير الصحراويين لا يختلف عن مصير كل المغاربة.”

ثم سألني سؤالًا غريبًا:

“ماذا تشعر حين ترى والدك يصلي بالبيت؟”

“عادي، إنه تقليد.”

“كيف تقول تقليد هل أنتم لا تؤمنون بالإسلام؟”

“بالعكس، نحن نؤمن بثوابت الأمة، وهذا منصوص عليه في القانون الأساسي للحزب.” وختم: “ما هي التهمة الموجهة لكارل ماركس؟” “لا أدري.” “اش قريتي النم؟” وبهذا ختم استنطاقه البليد. كان الشرطي الذي يجلس بجانبي يدون كل كلمة، بينما الرجل الجالس أمامي يراقب وجهي وحركاتي وتغير ملامحي. ثم قال: “نكتفي بهذا القدر.”

عند نزولي، وجدت أخي محمد جالسًا على كرسي خشبي، وبجواره الرفيق محمد المرابط والأخوين آيت مسعود. ربما كانوا ينتظرون دورهم في التحقيق. وعندما دخلت الزنزانة، استفسرني أحد الرفاق عما جرى، فأخبرته، فأخبرني بأن الرجل نصف الأُصلع هو “الديفيزيونير”، أما الآخر فتابع لجهاز الاستعلامات العامة، وقال لي: “ربما غدًا سيتم تقديمك أمام وكيل الملك.”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة5 

احداث يناير 1984 بدمنات- تابع- الحرية المؤقتة ونصائح الطريق: العودة من الجحيم

 بقلم : عبد المجيد أبو الزهور

على طريق الانتخابات الأولى كان صيف 1984 صيفًا استثنائيًا، ليس فقط بسبب الحرارة الخانقة والجفاف الذي خنق مدن المغرب وقراه، بل لأنه حمل بين طياته تجربة سياسية عميقة ومكثفة، سكنت تفاصيلها الذاكرة كما تسكن الندوب جسد المناضل. ففي دورة من دورات اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية، الذي كنت مناضلًا في صفوفه، تقرر أن نخوض الاستحقاقات التشريعية المقررة في 12 شتنبر 1984. القرار لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة نقاشات مستفيضة جمعتني بكل من الرفيق رحال الزكراوي، عضو المكتب السياسي للحزب والعامل آنذاك بمعمل السكر بسوق السبت، والرفيق الحسين وابير، أستاذ اللغة الفرنسية بإعدادية حمان الفطواكي، ثم الرفيق حميد المعطى، مفتش التعليم وعضو اللجنة المركزية، وأخيرًا الرفيق عبد الرزاق الحنفي، إطار بنيابة التعليم بأزيلال.

أمامنا كانت أربع دوائر انتخابية بإقليم أزيلال تنتظر تغطيتنا، وكان الهدف أسمى من مجرد التنافس على المقاعد: أردنا أن نعرّف بالحزب، أن نزرع بذور الفكر التقدمي وسط الجبال والمداشر، وأن نوصل الصوت الهادئ للمشروع السياسي الذي آمنا به.

طوال ذلك الصيف، تنقّلنا بين دمنات وبني ملال، بين البيوت المتواضعة ومقر الحزب غير البعيد عن محطة ستيام. الاجتماعات كانت شبه يومية، والنقاشات محتدمة، والأمل عنيد.. وفي اليوم الذي كنا سنحصل فيه على تزكية الحزب، استقللت سيارة الرفيق الحسين وابير، وتوجهنا صوب سوق السبت إلى فيلا صغيرة كانت سكنًا وظيفيًا للرفيق رحال الزكراوي. كانت سهرة سياسية بطابع إنساني. اجتمعنا على العشاء، ثم طلب الرفيق حميد المعطى من رحال أن يجلب لنا قنينة ويسكي. استجاب رحال أول الأمر، ثم استسلم للتعب وركن إلى سريره في غرفة مجاورة. لكن الرفيق المعطى ألحّ، فاستجلبنا قنينة ثانية. وبين الكؤوس، سالت أحاديث السياسة والذكريات والنقاش، حتى تسلّل التعب إلينا جميعًا.

قبل أن يغفو الحضور، خرج علينا الرفيق رحال بحزمه المعهود، وطلب من الحسين وابير أن يتوقف عن الشرب لأنه سيتولى السياقة صباحًا نحو الدار البيضاء، لحضور اجتماع اللجنة المركزية. التزم الحسين بالأمر، بينما واصل الآخرون السهر والنقاش حتى ساعة متأخرة من الليل.

وفي الصباح، كانت أزمة الماء الحادة في سوق السبت تمنع بعضنا من الاستحمام، فاختلطت رائحة الخمر بعرق السهر والنضال. توجهنا إلى مقر الحزب بشارع لالة الياقوت بالدار البيضاء، صعدنا إلى الطابق السادس حيث كانت القاعة تغصّ بالحاضرين. بالكاد وجدنا مقاعد وسط الزحام.

بدأ الاجتماع، وتولّى الرفيق علي يعته، الأمين العام للحزب، تقديم التقرير السياسي بصوته الرزين الحازم. تبعه نقاش حي شارك فيه عدد من الرفاق الذين طبعوا مسار الحزب حينها، من قبيل التهامي الخياري، شمعون ليفي، وخالد الناصري، رحمهم الله. كما تعاقب آخرون على المنبر، بعضهم غادر سفينة الحزب لاحقًا، وبعضهم رحل عن هذه الدنيا.

عند نهاية الدورة، تم التصويت على التقرير السياسي، وتوزيع تزكيات الحزب للمرشحين لخوض الانتخابات. كما سلمنا الرفيق الغربي، المكلف بمالية الحزب، مبلغ 2000 درهم، وهو واجب الكفالة المالية التي يتوجب إيداعها لدى مصلحة الضرائب، وإلا فلن يتم قبول ملف الترشح.

كانت تلك اللحظات تحمل مزيجًا من التوتر والعزيمة، من الالتزام الحزبي والاندماج الإنساني. كانت تجربة سياسية نُسجت بخيوط من الحلم والجهد، وطبعتها حرارة الصيف وجفاف المرحلة، لكنها بقيت واحدة من المحطات الفارقة في مساري النضالي.

إلى صناديق المعركة – التشريعيات 1984

كان الجو مشحونًا، الشارع يموج بالأسئلة، والأمل يتصارع مع الخوف في وجوه الناس. سنة 1984 لم تكن كسابقاتها. البلاد خارجة لتوها من موجة احتجاجات عارمة، والقمع لا يزال طريًا في الذاكرة. ومع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، قررت أن أخوض التجربة.

في مقر الحزب بشارع لالة ياقوت، تسلّم كل واحد منا تزكيته. لم تكن مجرد ورقة إدارية. كانت وثيقة عبور نحو مرحلة جديدة من النضال. كان توقيع الأمين العام بسيطًا لدرجة الطرافة—اسمه “علي”، يكتبه بخط عريض دون نقاط، كأنما يتعمّد أن يُكتب بسهولة ويُقلّد بسهولة أكبر. لكن ما يهمّنا لم يكن التوقيع، بل الختم الأحمر، خاتم الحزب، الذي حمل ثقل الانتماء وشرف المواجهة.

خرجنا من المقر في حدود الثالثة بعد الزوال. كنت برفقة الرفيق وابير، رجل ربطتني به صداقة متينة تعمّدت في أزمنة الشدة، إلى جانب رفاقية صلبة تشكلت في محطات النضال المشترك. ركبنا سيارته، واتجهنا أولًا إلى دوار أيت العزة، حيث تقيم عائلته، وسط الحقول الهادئة الممتدة بأفورار.

دوار أيت اعزة لم يكن مجرد محطة مؤقتة. كان بمثابة خزان للذاكرة النضالية. من هناك ينحدر محمد معزوز، الرفيق الذي كان له دور حاسم في استقطابي للحزب أيام الدراسة بجامعة القاضي عياض بمراكش. وكان هناك أيضًا الحسين العزاوي وموحا العزاوي. في ذاك البيت الطيني الدافئ، استقبلتنا والدته ببساطتها الأمازيغية الأصيلة، وقدّمت لنا وجبة سريعة بعد أن علمت بأننا لن نطيل المقام.

وصلنا دمنات بعد منتصف الليل، مرهقين جسديًا لكن مشحونين بما يكفي من الإصرار. اتفقنا قبل أن نفترق على اللقاء صباح الغد، عند الثامنة تمامًا، لننطلق إلى أزيلال لتقديم ملفات الترشيح.

في الصباح، تحلّقنا حول قهوة الصباح، كلٌّ وقهوته التي يعرفها. ثم شددنا الرحال إلى مقر عمالة أزيلال، ذلك المبنى الذي كان فيما مضى ثكنة عسكرية، وما زال يحتفظ بشيء من طابعه المهيب الجاف

 

 

 

 

التفاصيل من المصدر - اضغط هنا :::

مشاهدة ذاكرة انتفاضة دمنات 1984 المناضل التقدمي عبد الجليل أبوالزهور يوثق لحظة

يذكر بـأن الموضوع التابع لـ ذاكرة انتفاضة دمنات 1984 المناضل التقدمي عبد الجليل أبوالزهور يوثق لحظة الغضب الشعبي قد تم نشرة ومتواجد على ازيلال 24 وقد قام فريق التحرير في برس بي بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر او الموضوع من مصدره الاساسي.

وختاما نتمنى ان نكون قد قدمنا لكم من موقع Pressbee تفاصيل ومعلومات، ذاكرة انتفاضة دمنات 1984 : المناضل التقدمي عبد الجليل أبوالزهور يوثق لحظة الغضب الشعبي.

في الموقع ايضا :

الاكثر مشاهدة اخبار عربية
جديد الاخبار